أسطورةُ نرجس وإيكو، عبقريةُ الخيالِ الإغريقي
الفنون البصرية >>>> أساطير الشعوب
كَانَت ايكو (Echo) من بينِ الحورياتِ اللاتي عَمِلْنَ في خِدمَةِ الإلهةِ "هيرا"، وهي إحدى حورياتِ الغابةِ ويعني اسمُها بالعربيةِ "الصدى".
اشتُهِرَتْ ايكو بفصاحَتِها وقُدرَتِها على روايةِ القصصِ والحكايات، فكان من يُجالِسُها لا يملُّ من سحرِ لسانِها، ولا يشعُرُ بمضيِّ الوقتِ في جوارِها. لذلكَ أحبَّتْ هيرا صحبَتَها وقرَّبَتْها مِنْها.
وقد استغَلَّ زيوس "كبيرُ الآلهةِ" هذا الأمر، فكثيراً ما أفلَتَ من رقابةِ زوجَتِهِ هيرا عن طريقِ قصصِ ايكو، وانصَرَفََ إلى شؤونِهِ ومُغامراتِهِ الغراميَّةِ الأرضيَّة.
ومَضَت الأيامُ على هذا النحوِ حتّى جاءَ اليومُ الّذي اكتَشَفَتْ فيه هيرا ألاعيبَ زيوس واحتيالِهِ عليها بمُساعَدَةِ ايكو، فقرَّرت الانتقامَ ومُعاقَبَةَ الحوريَّةِ الفصيحَة.
فصَرَخَتْ بوَجهِ ايكو قائِلَةً: "هِبَةُ الكلامِ التي خدعتني بها لَنْ تكونَ لكِ بعدَ اليوم، فمنذُ الآن ستُصبحينَ صمّاءَ ولن تنطقي إلا لتُردِّدي آخِرَ كلمةٍ تسمعينَها."
"وا حسرتاه" صاحَتْ الحوريّاتُ بصوتٍ واحد، فردَّدَتْ ايكو دونَ وعيٍ "وا حسرتاه.. وا حسرتاه"
أرادَتْ ايكو الكلامَ واستجداءَ غُفرانِ الإلهةِ هيرا، ولكنَّها لَمْ تَستطعْ وعَجِزَتْ عَنْ الكلام.
وهكذا أصبَحَتْ ايكو صمّاءَ وغيرَ قادرةٍ على الكلامِ إلا لتكون صدىً يُرَدِّدُ كلامَ الآخرين، فانعَزَلَتْ عن أخواتِها وعاشَتْ وحيدةً حزينةً في إحدى غاباتِ الجبال.
وصَدَفَ أن تاهَ في الغابةِ ذاتِها فتىً اشتُهِرَ بجمالِهِ الفتّانِ "كوردةٍ في زهوِ الربيعِ"، هذا الفتى يُدعى نرجس Narcissus.
ففي أحدِ الأيامِ تخلَّفَ نرجس عن رفاقِهِ في أثناءِ الصيد وتاهَ في الغابة.
وتقولُ الأسطورةُ أنَّ العرّافَ الضريرَ "تيريسياس" تنبَّأَ لنرجس عندَ ولادَتِهِ أنَّهُ سَيَعيشُ سعيداً حتّى يعرِفَ نَفسَه. فكَبِرَ نرجس يبحَثُ عن ملذّاتِهِ الشخصيَّةِ فحَسب.
وكانَ كلُّ مَنْ يراهُ يعشَقَهُ لجمالِهِ، فكانَ يحصَلُ على ما يُريدُ مِنَ الآخرين بسهولة.
لكن برغمِ جمالِهِ وحُسنِ وجهِهِ، كانَ نرجس قاسي القلب، مغروراً، ويقومُ دائماً بتحطيمِ قلوبِ مُحبّيهِ لأنَّهُ لَمْ يَعرفْ الحُبَّ أبداً.
وعندما أبصرَتْ ايكو الفتى في الغابة، وقعَتْ في غرامِهِ وأحبَّتهُ حُبَّاً شديداً، وراحَتْ تلحَقُ بِهِ مِنْ مكانٍ لآخر تتخفّى خَلفَ الصُخورِ والأشجار.
وعندما أدرَكَ نرجس أخيراً أنَّهُ تائِهٌ في الغابةِ، رَاحَ يصيحُ على رفاقِه:
"يا رفاق.. أينَ أنتُمْ"
فأجابَهُ صوتُ ايكو، التي ردَّدَتْ كلامَهُ دونَ وعيٍ: "أينَ أنتُمْ"
تعجَّبَ الفتى مِنَ الصَوتِ، ثُمَّ صَاحَ مرَّةً أُخرى:
"أنا هُنا في الغابة"
"في الغابةِ" ردَّدَتْ ايكو
"تعالُوا هُنا" فردَّدَتْ ايكو "تعالُوا هُنا"
أدرَكَ الفتى مكانَ الصوتِ، فاتَّجهَ إليه. وعندما رأتْهُ ايكو شَعَرَتْ بالفَزَعِ وهَربَت.
وكُلَّما صَاحَ نرجس، تقومُ ايكو بترديدِ الصوتِ دونَ وعيٍ مِنْها فيقومُ بملاحقتِها، فشَعَرَتْ بصعوبةِ الإفلاتِ مِنْه.
ولكي تبتعدَ بِهِ عَنْ مكانِ إقامَتِها، توقَّفَتْ أخيراً عِندَ فُسحَةٍ بينَ الأشجارِ تتوسَّطُها بِركةُ ماءٍ. وبينما كانَ يتقدَّمُ نحوَها شَعَرَتْ بالحُزنِ، وسَقَطَتْ من عينيها دمعاتٍ، لأنَّها أرادَتْ أن تتكلَّمَ وتُعَبِّرَ عن حُبِّها لَهُ، ولكنَّها لَمْ تستطعْ.
"هَلْ أنتِ مَنْ كَانَ يُناديني؟" قالَ نرجس
"كانَ يُناديني" أجابَتْ ايكو
"مَنْ أنتِ؟" سألَ نرجس، فردَّدَتْ ايكو "مَنْ أنتِ"
"نرجس" ... "نرجس"
فثارَ غَضَبَهُ كُلَّما ردَّدَتْ كلامَهُ، ورَاحَ يشتِمُها بأقسى الكلماتِ، ولا تستطيعُ هيَ إلا ترديدَ كلِماتَهُ القاسيَّة.
وعندما شَعَرَ بالتعبِ واليأسِ من هذا الجدالِ العقيمِ، سكَتَ ورَمى نَفسَهُ على العُشبِ قُربَ البِركةِ ليستَريحَ قليلاً، وأشاحَ بَصَرَهُ عَنْها.
وقفَتْ قليلاً إلى جانِبِهِ تنتَحِبُ، ثُمَّ غادَرَتْ مكسورةَ الفؤادِ واختَبأتْ خلفَ إحدى الصخورِ في الجوار.
مرَّتْ لحظاتٌ بَدا فيها أنَّ غَضَبَ الفتى قَدْ هَدَأَ، ولأوَّلِ مرَّةٍ لاحَظَ نرجس نقاءَ البركةِ وصفاءَ مياهِها التي تعكِسُ زُرقَةَ السماءِ، فاقتَرَبَ مِنَ الحافَّةِ وانحنى ليشرَبَ، ولكنَّ الماءَ عَكَسَ لَهُ صُورَةَ أجمَلِ مخلوقٍ على وجهِ الأرضِ، فَعَرِفَ نرجس نَفسهُ ووَقَعَ في غرامِها، ومِنْ هُنا جاءَتْ كلِمَةُ النرجِسيَّةِ لكُلِّ مَنْ يعشَقُ نفسَه.
وبَعدَ تأمُلٍ في صورتِهِ المُنعَكِسَةِ على الماءِ صَرَخَ نرجس : "أُحبُّك"
فردَّدَتْ ايكو مِنْ وراءِ الصخورِ "أُحبُّكَ"، فمَدَّ الفتى يديهِ يُريدُ مُعانَقَةَ الصُورةِ في الماءِ، ولكنَّهُ عَكَّرَ هدوءَ السطحِ فاختَفَتِ الصورةُ، تراجَعَ نرجس قليلاً مُفتَكِراً فيما يراهُ حتَّى هَدَأتْ التَّموُّجاتُ وظَهَرَتْ صُورتَهُ مِنْ جديدٍ على وجهِ المياه، فأعادَ الكرَّةَ مرَّةً أُخرى، وكَانَتْ النتيجَةُ ذاتُها تموُّجاتٍ تتكسَّرُ فيها صورةُ نرجس المُنعَكسة، وعِندَما شَعَرَ باليأسِ ذَرَفَتْ عيناهُ الدموعَ بسببِ نارِ الحُبِّ المُشتَعِلةِ في قلبِهِ، وقرَّرَ أن يقفِزَ في البحيرةِ عَلّهُ يَجِدُ محبُوبَهُ في القاعِ، ولكنَّهُ لَمْ يَجِدْ سوى حتفَهُ، وهكذا صَدَقَتْ نبوءَةُ العرّافِ الضرير.
كانَتْ ايكو تُراقِبُ المشهدَ، وأسرَعَت لتَمنَعَ نرجس مِنَ القفزِ في الماء، ولكنَّهُ كانَ أسرع منها.
فجَلَسَتْ على الضِفَّةِ تبكي وتنتَحِبْ حتّى أفنَتْ نَفسَها، فماتَتْ وتحلَّلَتْ جثَّتُها، وصارَتْ عظامُها صخوراً، ولكنَّ لعنةَ هيرا لَمْ تَزَلْ حتّى اليومِ، فصوتُ ايكو (الصدى) يسكُنُ الغاباتِ ويُرَدِّدُ كلامَ الآخرين.
وفي المكانِ الذي سَقَتهُ دموعُ ايكو، نَبَتَتْ أزهارٌ بيضاءَ وصفراءَ سُمِّيَتْ بأزهارِ النرجس، ولا يزالُ عطرُها الفوّاح حتَّى اليوم يُذَكِّرُ بمأساةِ الفتى الذي عَشِقَ صورَتَهُ وراحَ ضحيَّةَ حبِّهِ لنَفسِه.
المصادر:
The Fabric Book of Greek Legends، Edited by: Kathleen Line
هنا