الديموقراطية في المجتمع اليوناني القديم
التاريخ وعلم الآثار >>>> حقائق تاريخية
ولكن كيف كانت نشأته؟ ومَن أوجده؟ وكيف استطاعَ هذا المصطلح بكل ما يحتويه من مفاهيم الاستمرارَ والنضالَ أن يصلَ إلينا اليوم في شكله الذي نعرفه؟ نقرأ في هذا المقال لمحةً تاريخيةً مبسطةً عن أصل الديموقراطية ونشأتها، تابعونا...
في العام 705 قبلَ الميلاد، قدّمَ الزعيمُ كليسثينيز الأثيني الأصل، نظاماً سياسياً إصلاحياً أطلقَ عليه ‘ديموقراطية’ أو ‘الحكم من قبل الشعب’.
يتألفُ هذا النظام من ثلاثِ مؤسساتٍ رئيسيةٍ منفصلةٍ هي:
1. ‘الإكلسا’ وهي هيئةُ السيادةِ الحاكمةِ التي تقوم بسَن القوانين والمسؤولةُ عن توجيه السياسةِ الخارجية.
2. ‘البول’ وهو مجلس النواب الذي يضم ممثلين عن الأطياف العشرة كافةٍ في أثينا.
3. ‘الديكاسترا’ وهي المحاكمُ العامةُ التي يتخاصمُ إليها المواطنون أمامَ هيئة المحلفين التي يتم انتخابها عن طريق القرعة.
ورَغمَ أنّ هذه الديموقراطية الأثينية ناضلت للبقاء على مدى قرنين من الزمن فقط، فإنّ هذا النظام الذي قدمه كليسثينيز كان أحدَ أكثرَ ما قدمته الحضارة اليونانية استمراراً وإسهاماً في العصر الحديث.
الديموقراطية وشعب الإغريق:
كتبَ المؤرخُ اليونانيُ هيرودوتس في الديموقراطية: "هي قبلَ كلِ شيء روعةُ الفضائل والمساواةُ أمامَ القانون".
إن الحقيقةَ التي لا يمكن إنكارها هي أنّ ديموقراطية كليسثينيز قد ألغَت بالفعل التمييزَ السياسيَ بين الأرستقراطيين الأثينينن الذين لطالَما احتكروا عمليةَ صنعِ القرار السياسي، والطبقةِ المتوسطةِ والعاملة التي كانت تشكل قَوامَ الجيشِ والجنديةِ البحرية*
كان ما يصفه هيرودوتس بـ ‘المساواة’ مقتصراً على شريحةٍ صغيرةٍ من شعب أثينا، فعلى سبيل المثال؛ بلغَ تعدادُ المواطنين الأثينيين** في منتصفِ القرنِ الرابعِ حوالي 100 ألف مواطن، إضافةً إلى 10 آلافٍ ممّا كان يعرف بـ ‘الميتوي كوي’*** ، و 150 ألفاً من العبيد. من بين تلك الأعدادِ كلِها من الناس؛ كان الذكورُ الأثينيون فوق سنِ الثامنةَ عشَرَ هم فقط مَن يُعتبر جزءاً من الشعب الأثيني، ما يعني أنّ 40 ألفَ مواطنٍ فقط من أصلِ 260 ألفاً هم من يستطيعون المشاركة في العملية الديموقراطية (وهو المقصود بالمساواة المقتصرة على شريحةٍ صغيرةٍ من الشعب).
الإكلسا:
تتألف الديموقراطية الأثينية من ثلاثِ مؤسسات رئيسة. الأولى هي الإكلسا، أو الجمعية، وهي الهيئةُ السياديةُ الحاكمةُ لأثينا.
يحق لأي فردٍ من الشعب – أي فقط من بين الـ 40 ألف مواطنٍ ذكراً بالغاً – حضورَ اجتماعات الإكلسا التي كانت تُعقد 40 مرةً كل عام، في قاعةٍ تقعُ على سفحِ تلةٍ غربَ أكروبوليس تدعى بينيكس. (فقط حوالي خمسة آلاف رجلٍ كان لهم الحق في حضور كل جلسةٍ من جلسات الجمعية تلك؛ في حين كانت بقية الشعب تخدم في الجيش أو الجندية البحرية، وبعضهم كانوا يعملون لإعالة أسرهم).
كان يتمّ خلالَ اجتماعات الإكلسا اتخاذَ قراراتِ الحروبِ والسياسة الخارجية، وكذلك كتابةَ وتعديلَ القوانين، إضافةً إلى إقرارِ أو إدانةِ سلوكِ الموظفين العامين؛ فالنفي مثلاً، والذي كان بموجبه يتم طردُ أحدِ المواطنين خارجَ أثينا لمدة عشرِ سنوات دونَ محاكمة، كانَ من صلاحيات الإكلسا.
البُول:
وهو ثاني أهم مؤسسة ديموقراطية، أو ما عُرف بمجلس الخمسِمئة. كان البُول عبارةً عن مجموعةٍ من 500 رجلٍ، بمعدلِ خمسينَ رجلاً يمثلون الأطيافَ العشرِ لأثينا، والذين خدموا في المجلسِ لمدةِ عام. وخلافاً لما كانت عليه الإكلسا، فقد عُقدت اجتماعات البول بشكل يوميٍ، وكانت تقومُ بالدورِ العملي للحكومة، حيث أشرفت على عمالِ الدولة، وكانت مسؤولةً عن عدةِ أمورٍ أخرى كسفن البحرية (تريريمز) و أحصنة الجيش. كما كان تداولُ أمورِ السفراء وممثلي المدنِ الأخرى إحدى مهامها أيضاً. ولكنّ مهمَتَها الرئيسية كانت إقرارُ الشؤون التي ستتداولها اجتماعات الإكلسا. و هكذا فقد كانَ الخمسُمئةِ عضو من أعضاء مجلس البول هم الذين يُملونَ آلية عمل الديموقراطية برمتِها.
كان يتمّ اختيارُ مناصبِ مجلس البول عن طريقِ القرعة وليس الانتخاب، ويُعزا ذلك وحسب إحدى النظريات إلى أن القرعةَ العشوائية تعتبر أكثرَ ديموقراطيةً من الانتخاب، ذلك أنها تتم عن طريقِ الصدفة المحضة قبل كل شيء، كما أنها لا يمكن أن تتأثرَ بأمورٍ أخرى كالمال أو النفوذ. كما أن نظام القرعة أيضاً يمنع من إيجاد فئةٍ من موظفي الخدمة المدنية الذين قد تسول لهم أنفسهم استخدامَ الحكومة لأغراضٍ شخصيةٍ كإثراء أنفسهم أو التقدم في مناصبهم.
ولكن وبكل الأحوال، فقد لاحظ المؤرخون أنّ الأثرياء وذوي النفوذ عملوا في المجلس مرات متكررة وهذا ما جعلهم يشكون في أنّ الاختيار كان عشوائياً.
الديكاسترا:
المؤسسة الثالثة الرئيسية من مؤسسات الديموقراطية، كانتِ المحاكمُ العامة أو الديكاسترا. في كل يومٍ كان يتم اختيار أكثر من 500 شخصٍ لهيئةِ المحلفين من مجموعةٍ من الذكور الذين تجاوزت أعمارهم الثلاثين. من بين المؤسسات الديموقراطية الثلاثة، رأى أرسطو أن الديكاسترا "هي أكثر من ساهمَ في تعزيز الديموقراطية"، وذلك لأن هيئةَ المحلفين تمتعت بصلاحياتٍ غيرِ محدودة. لم يكن نظامُ الشرطةِ موجوداً في حكومة أثينا، لذا كان المواطنون أنفسُهم يجلبون قضايا النزاعات إلى المحكمة، فيتداولون الدّعاوى القضائية ويتولون مهمة محامي الدفاع، ثم يقومون بتسليمِ الأحكام والعقوبات عن طريق حكم الأغلبية، كما لم تكن هناك قوانينٌ تحدد نوعَ الدعاوى القضائية التي من الممكن استئنافها، أو حتى ما يمكن قوله أثناء سير المحاكمة، الأمر الذي جعلَ المواطنين الأثينيين يلجؤون إلى الديكاسترا لإدانة أعدائِهم أو حتى إحراجهم قضائياً).
كان أعضاءُ هيئة المحلفين يتقاضون أجوراً مقابلَ عملهم، وقد كانت تلك المهنة متاحةً للجميع ولم تكن مقتصرةً على الأثرياء فقط، و لكن وبما أنّ تلك الأجور كانت أقل مما يتقاضاه عاملٌ في يومٍ واحد، فقد كان أعضاء الهيئة غالباً من كبارِ السن المتقاعدين. لم يكن المواطنون الأثينيون يدفعون أيّ ضرائبٍ للدولة، لذا فقد كانت مصادر الأجور تأتي من الرسومِ الجمركية، ومساهماتِ الحلفاء المالية، إضافةً إلى الضرائب المفروضة على الميتوي كوي. كان الاستثناء الوحيد لهذه القاعدة هو (الليتيرجيا) وهو نوعٌ من الضرائب يتبرع الأثرياءُ لدفعِها من أجلِ رعاية مشروعاتٍ مدنيةٍ كبرى كصيانة سفينةٍ حربيةٍ بحريةٍ (و قد أُطلق على هذا النوع من الضرائب الترايراكيا)، أو تمويل إنتاج مسرحية، أو أداء كورالي أثناء احتفال المدينة السنوي.
نهاية الديموقراطية الأثينية:
حوالي العام 460 قبلَ الميلاد، وأثناءَ حكم الجنرال بيركليس**** بدأت الديموقراطية الأثينية تتطورُ إلى ما يمكن أن نطلقَ عليه ‘الأرستقراطية’؛ وهو نظامُ الحكم الذي وصفَه المؤرخُ هيرودوتس "الرجل الواحد الأفضل". ورَغمَ أنّ مثلَ الديموقراطية وإجراءاتِها لم تستطع البقاءَ كثيراً لدى اليونان القدماء، إلا أنها بقيت ذاتَ تأثيرٍ كبيرٍ على السياسيين والحكومات مذ ذلك الحين.
الحاشية:
* كان سخطُ هذه الطبقة في بداية المطاف السببَ الأولَ لقيام كليسثينيز بإيجاد تلك الإصلاحات أو ‘الديموقراطية’.
** والمقصود بمواطن أثيني هنا مقصورٌ فقط على الرجال و النساء الذين ينحدرون من آباءٍ أثينيين بالأصل.
*** الميتوي كوي: هم الأجانب المقيمون في أثينا ولا يُحسَبون ضمن المواطنين.
**** كان منصب الجنرال من بين الوظائف الحكومية الوحيدة التي تتم عن طريق الانتخابات وليس عن طريق التعيين.
المصدر:
هنا