ديفيد ج. بيترسن.. مخترع اللغات
التعليم واللغات >>>> اللغويات
أتعرفُ بأيّة لغةٍ قيلت وكُتبت؟
تبدو صعبةً، أليس كذلك؟ ولكن إن كنت من عشّاقِ مسلسلِ "صراع العروش" (Game of Thrones) فلا بدّ أنّها ستبدو مألوفةً لديك حقاً!
هل تعلم أنّ هذه الجملةَ هي واحدةٌ من جملِ لغةٍ مُختَرعةٍ بالكاملٍ لتصبحَ شبيهةً باللغاتِ الطبيعيّةِ التي نعرفها؟
فمن هو مُخترعُ هذه اللغةِ وغيرها من اللغات المصطنعة أو المنشأة؟ فلنتابع ذلك في مقالنا التالي.
إذا كنت من محبي الخيال العلميّ أو الفانتازيا، فمن المُحتمل جداً أنّك قد سمعت لغةً اخترعها ديفيد ج. بيترسن، فإن كنت قد شاهدت يوماً ما إحدى حلقات مسلسل "صراع العروش" (Game of Thrones) فمن المؤكّد أنّك سمعت نتاج عمل بيترسن من فم "الخال دروغو" (Khal Drogo) وعروسه "ديناريس تارغاريان"(Daenerys Targaryen)، فقد صنع هذا الرجل لغة قبيلة "الدوثراكي" و لغة "الفاليريان" المستخدمتين في هذا المسلسل، بالإضافة إلى اختراعه للغات مكتوبة أو محكية لكل من Thor: The Dark World, SyFy’s Defiance, Dominion, The 100 and Star-Crossed، وبهذا أصبح ديفيد الاسم الأشهر في عالم "اللغات المصطنعة" (Conlangs) وساهم بدوره في رفع مستوى الوعي العام فيما يخص دور اللغات المصطنعة بالإضافة إلى تسليط الضوء على نوعيّة هذه اللغات.
ولد بيترسن في كاليفورنيا عام 1981، درس في بيكرلي وحصل على درجتي إجازة في اللغة الإنكليزية وفي علم اللغويات، حصل بعدها على درجة الماجستير في علم اللغويات وبدأ في صناعة اللغات منذ عام 2000، فهو يعمل في صنع لغات مسلسل "صراع العروش" منذ عام 2009، وفي عام 2011 أصبح مستشار لغات المخلوقات الفضائية في مسلسل "التحدّي" (Defiance) ، أما في عام 2013 انضم إلى فريق عمل "عابر النجوم" (Star-Crossed) و"السيادة" (Dominion)، وساهم في عام 2007 في تأسيس "جمعية اختراع اللغات" (Language Creation Society).
كان بيترسون منذ طفولته ميالاً دائماً إلى الفن، وعلم أنّ الشيء الرائع المُتعلّق بصناعة اللغات يكمن في الجانب التقني متضمناً صناعة قواعد النحو والتأكّد من فاعليتها، وهذا ما يشبه البرمجة إلى حدٍ ما، ويكمن أيضاً في الجانب الفني المُتجلّي في صناعة معجم شامل، وأخذ قرارات نهائيّة عن كيفية ترميز هذه اللغة لكلّ ما يحتويه هذا العالم الواسع، فكلّ اللغات يمكن أن تُستخدَم لقول أي شيء ولكن يكمن الاختلاف في آلية استخدامها للحديث عن هذه الأشياء، وهذا ما يجعل اللغات شيئاً مثيراً للدهشة.
كتب ديفيد ثلاثة كتب منها كتاب "اللغة الحيّة: الدوثراكية" (Living Language Dothraki) و"الدليل الرسمي للغة الدوثراكية"، وكتب أيضاً "فن اختراع اللغات" (The Art of Language Invention) الذي يتناول تفاصيل صناعة اللغات ويستعرض بعض اللغات التي استخدمها لشاشة التلفاز والسينما تتضمن: Dothraki, High
Valyrian, Castithan, Irathient, Indojisnen, Sondiv, Shivaisith.
درس بيترسن نحو عشرين لغة كالإسبانية و السواحيلية والإسبيرانتو والمصريّة الوسطى ولغة الإشارة الأميركية، ولكنّه يصرّ على أنّ هناك فرقاً شاسعاً بين تعلّم تحدّث اللغة وبين بنائها من الصفر والعمل على إظهار تطورها عبر الوقت، إذ يؤكّد بيترسن أنّه يشعر براحة في اختيار تحدّث اللغة العربيّة مثلاً أكثر من اختيار "الدوثراكي" على الرغم من إلمامه بالأخيرة أكثر من اللغة العربية.
إنّ شعبية مسلسل"صراع العروش" وأفلام شركة مارفل (Marvel Films) قد ساهمت بدرجة كبيرة في رفع سمعة اللغات المصطنعة، ولكن بطريقة ما يمكن القول إنّ جميع اللغات هي عبارة عن "اختراعات"، إذ بُنيَ معظمها عن طريق الصدفة على مدى قرون من الارتجال والتعاون اللغوي، ولكن يتميز بعضها الذي يصفه علماء اللغة "باللغات المخترعة" بإمكانية ربطها بمخترع واحد. وتُعدّ "لينغوا إيغنوتا" (Lingua Ignota) أقدم لغة مصطنعة، فقد اختُرعت في القرن الثاني عشر من قبل الراهبة الألمانية (هيلدغارد فون بينجين)، وبقي الغرض من وراء اختراع هذه اللغة سراً حتى يومنا هذا. أما في خلال عصر التنوير، طمح الفلاسفة الأوروبيون إلى صناعة لغات يمكنها التعبير عن أي مفهوم في الكون بدقة متناهية، ولكن كانت النتائج معقدة جداً وتطلبت الرجوع إلى مخططات ورسوم بيانية ومسارد، ولهذا لم تُستخدم هذه اللغات.
في القرن التاسع عشر، أمِل أنصار المدينة الفاضلة والمثاليون وجود لغات كونية من شأنها أن تؤسس لتناغم عالمي، ولكن لم ينجح أحد بتحقيق ذلك.
جاءت اللحظة الفاصلة في تاريخ صناعة اللغات في خلال فترة الثمانينيات حين اخترع مارك أوكراند لغة تدعى "الكلينغون" (Klingon) للفيلم "ستار تريك" (Star Trek III) إذ أسس أوكراند قواعد النحو والأصوات لهذه اللغة، ولكن لم تكن هذه اللغة أكثر من وهم؛ إذ تبدو حقيقيّة عن قرب ولكن إذا تفحصناها بنظرة شاملة فقد تظهر ركاكتها، ومع ذلك فقد بنى أوكراند بضغط من فريق عمل الفيلم اللغة بشكل كامل ونشر قاموساً بيع منه أكثر من 300000 نسخة.
من هنا يمكننا القول بأن أوكراند يباشر ببناء لغته "كبنّاء مجموعات" بينما يفعل بيترسن ذلك كمهندس معماري، فعندما اخترع "الدوثراكية" صوّر تاريخاً كاملاً لكل كلمة مزوداً إصداراتٍ للغة وتخيّل وجودها في الماضي بما في ذلك آلاف الكلمات التي لم تستخدم أصلاً في "صراع العروش"، وبهذا لا ينشئ بيترسن ليس فقط منزلاً فحسب بل ويجري بعض الأبحاث في علم الآثار لمعرفة ما كان على هذه الأرض قبل وجود المنزل. علاوةً على ذلك فإن بيترسن لم يكن عليه أن يتخيل اللغة المحكية بما فيها من قواعد نحو وأصوات بل كان عليه أيضاً أن ينشئ النظام المكتوب لهذه اللغات، بل حتى أن يخترع نظام الأعداد لهذه اللغات.
يمتلك بيترسن نظرية مثيرة للاهتمام؛ إذ فيعتقد أن وجود مجتمع صناعة لغات أكبر قد يساعدنا على توسيع دائرة فهمنا لأشكال تواصل مكتوبة ومحكيّة محتملة، ما قد يساعدنا على التواصل بين الأرض وكائنات فضائيّة، يدعم بيترسن ذلك بقوله "يوماً ما في المستقبل من الممكن أن نواجه مخلوقات فضائيّة، ومن الممكن أن يكون لديهم نظام تواصل لا يرتقي لتصنيفه كلغة بمفهومنا ولن ننظر إليه على أنه لغة، ولكن كلما رأينا لغات أكثر، وكلما عرفنا عنها أكثر، افترضنا وجود لغات أخرى، وذلك بدوره قد يساعدنا على فهم لغات أخرى، بينما لو أنّ كلّ الناس تكلموا اللغة الإنكليزيّة ونسوا اللغات الأخرى، فذلك فعلاً سوف يعني نهايتنا".
من الجدير بالذكر أن تعلّم لغة مصطنعة ليس بالأمر السهل، ويحرص بيترسن على مساعدة الممثلين إتقان هذه اللغات إتقاناً جيّداً؛ إذ يمضي الساعات الطوال على الهاتف وهو يرشدهم في قراءة أدوارهم بأدق تفاصيلها، ويمكن أن يأخذ الأمر أياماً للوصول إلى إتقان اللفظ الصحيح إتقاناً تاماً.
وبالمناسبة، فإن جملة “.Astas ‘M’athchomaroon’ okeosaan naqisa anni” تعني "فلنرحب بصديقنا الصغير"!
المصادر:
هنا
هنا
هنا
هنا
هنا
هنا