فرانز شوبرت.. العبقرية الهادئة
الموسيقا >>>> عظماء الموسيقا
يمكنك الاستماع للمقالة عوضاً عن القراءة
إن ما نعرفه عن سنين فرانز المبكرة قليلٌ للغاية، فلا يطفو على السطح إلا مرحُه وحبُّه للناس، وما قدّمه من دلائل قوية على موهبته الاستثنائية. وكان من بين أساتِذته الأوائل والدهُ، وأخوهُ إغناز Ignaz، وعازف الأورغن في الكنيسة ميشيل هولزر.
لقد تمتّعَ الكثيرُ من العباقرة ببيئةٍ ملائمةٍ لنمو مواهبهم وتطورها، ولكن القليلين هم الذين عاشوا شبابَهم في مثل ذلك الجو الموسيقي الذي عرفه شوبرت.. أما الذين كانت لهم فرصةُ الحصول على الخبرة العملية التي أتيحت له خلال عمله مع الكورس والأوركسترا، فهم قلّةٌ قليلة، ولكنهم حتماً الأوفرُ حظّاً..!
كان والد شوبرت يرغبُ في أن يصبحَ ابنه عضواً في كورس الصبيان بالقصر الملكي، لأن ذلك يعني حصوله على منحةٍ مجانيةٍ للدراسة في المدرسةِ الامبراطورية Imperial Konvikt التي كانت أهم مدارس فيينا آنذاك. وهو ما كان مقدّراً لهذه الموهبةِ الفذّة، حيثُ تقدّم شوبرت لملءِ أحدِ الشواغر في كَوْرَسِ السوبرانو وتمكّنَ بفضل صوتِه الرائع ومعلوماته الموسيقيةِ المتقدمةِ أن يتفوّق على جميع المنافسين، والذين غالباً ما كانوا يسخرون من زيّهِ المتواضعِ الذي يعكسُ ضنْكَ العيشِ الذي كانت تعانيه العائلة. عانى شوبرت هناك من ظروفِ الحياة القاسية، فكانَ الأساتذةُ صارمينَ لا يتفهّمون طلابهم، وغالباً ما كانَ يطلبُ من أخيه الأكبر إرسال النقود له عبر الرسائل ويختِمها دائماً واصفاً نفسه بقوله: "أخوك المحبُّ والفقيرُ والممتلئُ بالآمال، والفقير مرةً أخرى والذي يجب ألّا تنساه: فرانز".
عندما بلغَ الخامسة عشرَ من العمر، بدأَ شوبرت بالدراسة على يد أنطونيو سالييري Antonio Salieri، وفيهِ وجد نبعاً من المعلومات الموسيقيّة، فتعلّم منه فنّ كتابة الأوبرا الإيطالية وأبدى مهارةً خاصةً في الأوبرا بوفا Opera buffa، ولكنه لم يتعلم التصعيد والتمثيل، كما افتقد للزخرفةِ والبريق اللونيّ الصاخبِ الذي تمتّعَ بهِ روسّيني. أما محاولاتُه لإثباتِ وجودهِ في أحلكِ فتراتِ الأوبرا فقد كانت الأكثر مأساوية بالنسبة إليه، إذْ أنّ سالييري جعلَه يدفنُ موسيقاه الجيدة تحتَ حطامِ الكتابةِ النظريةِ الرديئة، مما سوّد حياةَ شوبرت وخيب أمله مرةً أخرى.
وفي العام 1813، وقبل مغادرتِه المدرسة الامبراطورية، أتمّ شوبرت سيمفونِيّتهُ الأولى في مقامِ الـ (ري ماجور)، مهدياً إيّاها إلى أستاذه لانج Lang. وبعدَ عشرةِ أيامٍ، وحين كان ينتظرُ عرضاً لقدّاسه في الكنيسة الامبراطورية، ألّفَ شوبرت المجموعةَ الأولى من أغانيهِ والتي أسماها "غريتشين على المغزل Gretchen am Spinrade"، لتكون بذلكَ المبشّر الأول بولادةِ أغنية الليدر الألماني على يد مؤلفها العبقري الذي لم يتجاوز السابعة عشر من عمره بعد، بتحويلاتها المقاميةِ الكاملة، وتناسبها الدرامي المطلق بين كل نوتةٍ وحرفٍ من شعرِ الرائع غوته.
قبل ذلك بشهر واحد كان شوبرت قد ألّف الحركةَ الأولى في رباعيته الوترية في مقامِ الـ (سي بيمول ماجور) وذلك في زمنٍ قصيرٍ خياليّ لم يتجاوز الأربعَ ساعاتٍ ونصف، وكانت تلكَ مقدمةُ نشاطه الإبداعي لذلك العام حيثُ ألّف ست أوبرات وقُداسين وسيمفونيتين وثلاث سوناتات ومئة وأربعاً وأربعين أغنية! كلها في ذات السنة. والمثير للدهشة أنه في ذات العام عمل في تدريس مبادئ القراءة والكتابة والحساب للأطفال لمدةِ ست ساعاتٍ يومياً! وفي عام 1815 كانت ولادةُ مجموعة الأغاني التي وصل فيها إلى مرحلة الكمال اللحني، بقصائد لجوته وشيلر وهاينه والتي ضمّت القصائد الثلاثين لغوته بعنوان "الوردة البرية الصغيرة Heidenroslein" و"خفة البحر Meerstille" وأغنية "الجوال الليلي Wanderers Nachtlied"، و"الحب الذي لا يهدأ Rastlose Liebe" والتي تلاقي شعبيةً وانتشاراً واسعين حتى اليوم.
استمرّ إبداع شوبرت، حيث ألّف في الذكرى الأولى لكتابة "غريتشين على المغزل" ثمانية أغانٍ في يوم واحد، فكان عام 1815 ذروة الغزارة الإبداعية له بلا منازع، إذ لم يصل أيّ موسيقيّ لذلك المستوى الكمي من الإنتاجِ من قبل. تبع ذلك عامٌ آخرُ من التألق، حيث كتب حوالي مئةٍ وعشرِ أغانٍ وسيمفونيتين: الرابعة في مقام الـ (دو مينور)، والخامسة في مقام الـ (سي دييز ماجور)، كما كتب قداساً وثلاث سوناتات للبيانو والكمان. بعد ذلك عادت الغزارة لمستواها الطبيعي في العام 1817 فاكتفى بعملٍ واحد لموسيقى الحجرة وثلاث افتتاحياتٍ مشابهةٍ لافتتاحياتِ روسيني، وسبعٍ وأربعين أغنيةً وسبعِ سوناتاتٍ للبيانو!
وفي عام 1822 أصيب شوبرت بنوبة إبداعية شديدة أخرى، أسفرت عن أوبرا ألفونسو وإيستيرلا Alfonso and Estrella، وقداسٍ في مقام (لا بيمول ماجور) وفانتازيا الجوال، والسيمفونية الناقصة الشهيرة. وكان العام 1824 بدايةَ آخرِ فتراتِ التأليف المكثف والتي انتهت كلياً عام 1828.
عُرفَ عن شوبرت منذ أيامه الأولى اهتمامه بالصداقة التي لم تقلّ أهميةً لديه عن حبّه للموسيقى، كما أنه كان موهوباً في اجتذاب الأصدقاء، حيث جمع حوله خلال سنواتِ عمله في التدريس مجموعةً من الشبان الذين عوّضوه عن أوقاتِهِ العصيبة ووجدَ فيهم الراحة من عمله المجهد في التأليف الموسيقيّ. وكان من أعزّ أصدقائه شوبير Schober وشفيند Schwind وبايرنفيلد Bayrenfeld، ومايرهوفر Mayerhofer، والذين أطلقوا على نفسهم لقب "الشوبرتيين Schubertians"، وتزيّنت جلساتهم بقراءةِ الأدب وسماع موسيقى شوبرت وبعض التسالي مثل مباريات المصارعة والمبارزة، كما أنّ أهم ما ميّزهم كان إيمانهم بعبقرية شوبرت ودعهما.
إنّ عدم قدرةِ شوبرت على التعامل مع الطبقات الراقية حَرَمه حتى وقتٍ متأخرٍ من وجودِ شخصيةٍ قوية ترعاه وتهتم بمصالحه، وظلّ عاجزاً عن العيش من دخله الخاص، كما ظلّت المأساةُ دائماً شديدة الارتباط بحياته. وفي عام 1842 كتب لصديقه قائلاً: "هل لك أن تتصوّر شخصاً صحتُه معرضةٌ للانهيارِ بشكل مستمر؟ أن تتصوّر شخصاً تحطّمت أكثر آمالِه بريقاً، متحولةً إلى هباءٍ منثور؟ شخصاً يجدُ في الحب والصداقة منابعَ حزنٍ ومرارة؟ شخصاً يوشكُ إلهامُه على النضوب، وإحساسُه بالجمال على الموت؟ ثمّ اطرح على نفسِكَ هذا السؤال: أليس هذا كائناً شقياً تعيساً؟". وبقيتْ المعلوماتُ عن غراميّاته قليلة، فهو لمْ يتزوجْ قط، إلا أنّه أُغرمَ مرّتين لمْ تُكلّلا بالارتباط. وعلى غرار غيره من المشاهير، فقد ألهمت قلّةُ المعلوماتِ عنه كُتّابَ المسرحيات والقصص ودفعتهم لتصور قصصهم الخاصة، حتى أن الموضوع الرئيسيّ لأفضلِ المسرحيات الشوبرتية التي ألّفها كارل كوستا كان عن منافسةٍ نسائيةٍ شديدة لاكتساب إعجابِ شوبرت، لكنها طبعاً روايةٌ غيرُ صحيحةٍ تاريخياً.
اشتدت حدةُ المرضِ على شوبرت ناقلةً إيّاهُ إلى مشفى فيينا أوائلَ العام 1823 وهناك ألّف مجموعةَ أغانيه الجديدة بعنوان "الطحانة الحسناء" متحدّياً بذلك آلامه الجسدية الجديدة. وبعد أن استعاد صحته لعامٍ ونصف العام، باغته المرضُ ثانيةً على شكلِ نوباتِ صداعٍ حادة لا تقلّ قسوة عن إجهادهِ لنفسه عبرَ اندفاعه الإبداعي المعهود.
وفي تشرين الأول عامَ 1828 توجّه شوبرت للإقامة عند أخيه فرديناند، وفي آخر أيام الصيف كان يتناول عشاءَه عندما توقف فجأةً وقال أنّه يشعرُ بأعراض التسمم. لقد كان شوبرت مصاباً بالتيفوئيد الذي كان منتشراً للغاية في تلك الفترة، ومع تطور الحمى أصيبَ بالهذيان فأصبح يعتقدُ بأنّه قد دُفن حياً، وعندما كان فرديناند يحاول إقناعَه بأنه ما زال حياً جالساً على فراشه الخاص كان الجواب: "كلا إنّ هذا غير صحيح! .. وإلا فأين هو بيتهوفن؟". هكذا حتى تُوفيّ فرانز شوبرت في عشية الـ 19 من تشرين الثاني عام 1828.
وصل إجمالي مؤلفات شوبرت إلى أكثرَ من ستمائة أغنية و8 سيمفونيات و22 سوناتا للبيانو و35 عملاً متنوعاً لموسيقى الحجرة والكثير من المقطوعات الصغيرة والأعمال الخاصة بالبيانو، إضافةً إلى ست قداسات و5 أوبرات. لقد عاشَ شوبرت حياةً سهلةً خاليةً من الأحداث الدراماتيكية، دون أي معاركَ أو مشاجرات.. دون انتصارات أو هزائم.. ودون ثروةٍ أو شهرة..!! لكنّها كانت مع ذلك حياةً دافئةً وخصبةً وغنية، أشبَه بتجمعاتٍ من الغيوم تتخللها حزمٌ من أشعة الشمس.
الأعمال:
السيمفونية الناقصة No.8:
ليدر Erlkönig" ملك الغاب ":
سوناتا البيانو في مقام الـ (لا مينور):
من مجموعة "الوهليات الأربع" Impromptu :No.3:
افتتاحية أوبرا "ألفونسو وإيستيرلا :"Alfonso und Estrella
الرباعي الوتري الثالث عشر في مقام الـ (لا مينور) :A Minor string quartet No.13
المصادر:
هنا
هنا
هنا
Einstein، Alfred; Schubert، the man and his music.
وعن كتاب "أصداء أورفيوس- أساطين الموسيقى الكلاسيكية": عماد مصطفى