مراجعة رواية (حليب أسود): حينما يولد الأدب من رحم الامومة والاكتئاب.
كتاب >>>> روايات ومقالات
لا بد وأن كلَ أمٍ جديدةٍ قد أقلقتها هذه الأسئلة، وهي تحتد وتصبح أشد إيلامًا عندما تكون تلك المرأةَ الأمُ في بدايةِ حياتِها المهنيةِ أو الإبداعيةِ أو في ذروتها. فالمرأة بكونها الجنس الذي تنشأ بداخله الحياةُ الجديدةُ محكومةٌ باتهاماتٍ يوميةٍ منذ نعومة أظفارها. وحين تصبح أُمًّا أو توشك على ذلك، تحيط بها الانتقاداتُ والأسئلةُ والاقتراحاتُ والمحاكماتُ من كل حدبٍ وصوبٍ، ويصبح كلُ ما تفعله مؤثرًا مباشرًا على حياةِ إنسانٍ جديد، وإن لم يتملكها ذلك الهاجسُ المرعبُ في داخلها فإنها ستجد حولها الكثير ممن يستسهلون الانتقادَ والحكمَ على طريقةِ حياتِها وتربيتِها لأطفالِها وطريقةِ مأكلِها وملبسِها ونومِها إن هي سمحت لهم بذلك.
كيف من الممكن أن تتعايشَ امرأةٌ حبلى بكمٍّ هائلٍ من الحكاياتِ والأفكارِ والخيالاتِ والعبقريةِ الفنيةِ مع حملٍ جديدٍ من نوعٍ آخرَ تمامًا. نتكلم هنا عن الكاتبةِ التركيةِ إليف شفق التي اكتشفت هذا العالمَ الجديدَ المهولَ بغرائِبه في بدايةِ زواجِها وحملِها. وبعد أن استفاقت من أثرِ صدمةِ هذا التغيير، بدأت تستكشفه بفضولها الذي تدهشه أدقٌ تفاصيلِ الحياة. فبالنسبة لهذه المرأةِ المحاطةِ بكواكبَ من الأحلامِ والطموحات، لم يكن الحمل حدثًا عاديًا أبدًا، بل كان بالنسبة لها هجومًا على كيانِها الكاملِ ككاتبةٍ صوفية، لذا قررت أن تواجهه بسلاحِها الخاص، وهو الحبر، وأن تحتضن هذا التغييرَ وتحلِّلَه لتعرف كيف ستنجو منه محافظةً على شخصياتِها المتعددةِ أو "حريمها" كما تحب أن تسمِيَها: المترحلة، الصوفية، العالمية، الكاتبة، والنباتية.
لم تحافظ شفق على حريمها وحسب، بل وجدت اثنتين أخريتين بعد أن أصبحت أَمًّا. تلك الحريم هي أصواتُها الداخليةُ التي تتحكمُ بحياتِها وتؤثر على قراراتِها ووجودِها، وكل ذلك بالإضافةِ إلى أزمةِ منتصفِ العمرِ التي تعاني منها جميعُ النساءِ بعد الزواجِ والإنجابِ وقضاءِ بعضِ الوقتِ كربةِ منزل، حين يعصف ذلك السؤال بالمرأة: هل هذا كل ما في الأمر؟ هل توقفت الأحداثُ والمفاجآتُ والتطوراتُ في حياتي؟
تتوسع شفق في وصف تلك النساء الأنمليات حيث تجد نفسها مجبرةً أحيانًا على الانصياع لرَغَبَاتِهِنّ، وأحيانًا أخرى ضائعةً بينهن لأن لكلٍّ منهن احتياجاتٌ مختلفة. ففي مرحلة من مراحل حياتها كانت الأنثى الكاتبةُ والأنثى الصوفيةُ ذاتا صوتين قويين جدًا ساعداها على إثباتِ نفسها بنجاحٍ في مجال الكتابةِ لتنشر رواياتٍ شهيرةٍ مثل "قواعد العشق الأربعون" و "لقيطة اسطنبول". والآن وبعد أن وصلت إلى منتصف العقدِ الثالثِ من عمرها بدأت اثنتان من الحريم بالظهور. اثنتان أنمليتان جديدتان، الزوجةُ والأم، وبدأتا تعذبانِها بصوتيهما لتذكيرها بدورها الطبيعي كأنثى ذات ساعةٍ بيولوجيةٍ تعكر صفوَ هدوئِها وسعيَها نحو القمة، ويعارضانها في رفضِها لدورِ المرأةِ الكلاسيكية. وفي لحظة تجلٍ، أثناء رحلةٍ عبر مضيق البوسفور، وجدت نفسها أمام أمٍّ لطفلين وحاملٍ بطفلٍ ثالث. وبطريقة ما شعرت بالغيرة من تلك الأم، وبأن أمرًا ما ينقصُها لتكتمل أنوثَتُها.
وبكل شجاعةٍ قررت شفق الاستكشاف بنفسها لتعرف ما الذي ينتظرها، هي الآن حاملٌ وتريد أن تعرف كيف تعاملت النساءُ الكاتباتُ مع هذا الدورِ الجديد، وكيف تعايشن مع كآبةِ ما بعد الولادة التي سيكون لها تأثيرٌ مضاعفٌ عند الأمِ الكاتبةِ التي تحتاج إلى تأملٍ وسكينةٍ لأيام وأحيانًا لأشهرَ لتخرج بعملٍ إبداعيٍّ حقيقي. وبدأت بالبحث لتكتشف حقائقَ غريبةً ومثيرةً عن كاتباتٍ مثل سيلفيا بلاث، وأليس ووكر، وسيمون دو بوفوار وغيرِهن.
ولكن للأسف، جميعُ تلك الكاتبات عشن تجاربَ مؤلمةً وتعيسةً مع الزواجِ والأمومة. بعضهن أودت بهن تلك الكآبةُ إلى الانتحار. فقررت شفق الحصولَ على المزيدِ من المساعدةِ من جامعةٍ تبحث قي الدراساتِ النسوية. وخلال الرحلة، التقت بآخر حريمها، امرأةٌ سمينةٌ وطيبةٌ تدعى "ماما رايس بودينغ" أو "ماما رز بالحليب". تناقشت معها في سببِ جزعِها من الأمومة، ولكن ماما رز بالحليب استغربت لماذا تحمِّل الأمرَ هذه الأهمية، فهو لا يتعدى فكرةَ "الزواجِ والأطفالِ وحلوى المافن" بينما تحولها بأفكارِها وخوفِها وتجعلها أشبه بـ "هتلر والنازيين".
وحين بدأت تصيبها كآبةُ ما بعد الولادة، والتي تمثَّلت لها بجنِّيٍّ كريهٍ ذي ذقنٍ صغيرةٍ ونظارات، قررت التحدُّثَ إليه ومواجهَته، والكتابة عن محادثاتِها مع ذلك الجني، وحينها أصبح من الصعبِ عليها معرفةُ فيما إذا كانت الكآبة ما أوجد الكتاب، أم أنّ الكتابةَ نفسها هي التي جلبت الكآبة. إلا أن ذلك الجنّيَّ أقنعها بأن أسهلَ طريقةٍ لمواجهةِ المخاوفِ هي في معايشَتها بدلًا من البحثِ عن تجاربَ سابقةٍ لكاتباتٍ أخريات.
في هذه السيرةِ الذاتيةِ الكثير من الفكاهةِ والأفكارِ الغريبةِ التي تراود الأنثى في تلك المرحلة، على الرغم من وجودِ الكثيرِ من الأفكارِ النمطيةِ والاحكامِ المسبقةِ المزعجةِ التي تحيط بها بسببِ الموروثِ الاجتماعيِّ والديني، ومنها أفكارٌ وأحكامٌ نطلقها نحن على أنفسنا وعلى المقربين منا غير مدركين أننا نجعل حياتَهم أكثر صعوبة.
لن تشعر بالكآبةِ أبدا وأنت تقرأ عن كآبةِ شفق، كما أنك ستستمتع بقراءتها إن كنت رجلًا أيضا، فهي بطريقتها اللطيفةِ والسلسةِ ستجعلك تسابقُ السطورَ لتصل إلى مخرجٍ ليس من كآبة ما بعد الولادةِ وحسب، بل من أيِّ موقفٍ صعبٍ أو أيامٍ سوداءَ قد تعيشها من خلال المحاوراتِ التي ستبدأ بتمثيلها أنت نفسك كما فعلت شفق مع النساءِ الأنمليات. لتثبت تلك الكاتبةُ البليغةُ أنه وبالخيال نستطيع اكتشاف عوالمَ أنفسنا الخفيةِ ونجد طريقنا عبر كل التغييراتِ الجذريةِ التي تطرأ على حياتِنا.
معلومات الكتاب:
الكاتبة: إليف شفق
اسم الكتاب: حليب أسود
الترجمة: أحمد العلي
النشر: مسكيلياني للنشر والتوزيع
عدد الصفحات: 420