الحليب العضويِّ أم الحليب التقليدي؟ بين الحقيقة والشَّائعات
الغذاء والتغذية >>>> مدخل إلى علم التغذية
يقومُ العديدُ من الأشخاصِ باستهلاكِ الأغذيةِ العضويّةِ تحتَ شعارِ مصلحةِ البيئة والحيوانات، دون أن تكون الصحةُ أولويةً كبرى وراء اختيارِهِم هذا. ولذلك كان لا بدّ من إلقاءِ نظرةٍ شاملةٍ على الدراساتِ المعنيّةِ بتحديدِ الاختلافات بين الأغذيةِ العضويّةِ ونظيراتِها التي يتم إنتاجها بالطرائقِ التقليديّة، والخروجِ بنتيجةٍ نهائيةٍ حول صحةِ الشّائعاتِ التي تقولُ بأنّ الأغذيةَ العضويةَ هي الأفضلُ لنا بلا أيّ منازع.
وقد اجتمعَت لتحقيقِ هذا الهدفِ مجموعةٌ من الباحثين من مختلفِ الجامعاتِ ومعاهدِ الأبحاث الأوروبيّة، كجامعةِ نيوكاسل في بريطانيا Newcastle University والمعهدِ النرويجيّ لبحوثِ الكيمياء الحيويّة The Norwagian Institute for Biochemistry Research وجامعةِ وارسو لعلومِ الحياة Warsaw University of Life Sciences إلى جانب مؤسسةِ The Sheepdrove Trust الخيريةِ وبتمويلٍ من اللجنةِ الأوروبيّة The European Community. أجرى الباحثون مراجعةً منهجيَّةً Systematic review وتَّحليلاً تُلوياً Meta-analysis للدِّراسات السابقة التي قارنَت المكوِّناتِ الغذائيَّةً بين الحليبِ الطَّازجِ العضويِّ والحليب المُنتجِ بالطَّريقة التقليديّة، ونُشرَت نتيجةُ الدِّراسةِ في المجلَّة البريطانية للتغذية The British Journal of Nutrition.
شملَ البحثُ عدداً كبيراً من الدراساتِ التي نُشرت بين عامي 1992 (عندما أُدخلت المعاييرِ القانونيَّةِ الخاصَّةِ بالمزارع العضويَّة إلى الاتِّحاد الأوروبيِّ لأول مرة) و2014، وتمّ فيهِ حسابُ متوسطاتِ القيمِ الناتجةِ عن البياناتِ المتوفّرةِ والتي تتعلّقُ بمؤشراتٍ تغذويةٍ معينةٍ في كلٍّ من حليبِ الأبقارِ الطَّازجِ العضويِّ وغير العضويِّ.
وقد وجد الباحثونَ أنَّ الحليبَ المُنتج بالطريقةِ العضويَّة يحتوي على نسبةٍ أكبرَ من الأحماضِ الدّهنية من نوع أوميغا-3، والتي يُعرف عنها ارتباطُها بتحسينِ صحَّةِ القلب، وكان محتوى الحليبِ العضويّ منها أعلى بنسبة 56% من الحليبِ التقليديّ، دون وجود اختلافٍ في نسبة الدّهون المشبعة والدهون أحاديّةِ عدمِ التشبّع بين طريقتي الإنتاج. كما أشاروا إلى أنّ استهلاكَ نصفِ ليترٍ من الحليبِ العضويّ سيزوّد الجسمَ بـ 16% من كميةِ الأوميغا-3 الموصى بها يومياً، مقابل 11% فقط من الحليبِ المنتجِ بالطريقةِ التقليدية، ممّا يجعلُ استهلاكَ الحليبِ العضوي كوسيلةٍ غذائيةٍ مكمِّلةٍ أمراً مرغوباً ويُنصح باتباعِه.
كما احتوى الحليبُ العضوي على نسبةٍ أكبرَ بقليلٍ من الحديدِ وفيتامين E مقارنةً بالحليب المُنتج بالطريقة الاعتياديّة، إلا أنّه كان منخفضَ المحتوى من اليود والسيلينيوم، علماً أنّهما عنصرانِ شديدا الأهميةِ للجسم، حيث يدخلُ اليود في إنتاجِ هرمون الغدَّةِ الدَّرقية، في حين يساعد السيلينيوم على حمايةِ الخلايا من التَّلف.
ما هي السّلبيات الموجودة؟
صُنِّفت الدراساتُ التي شملَها البحثُ بأنَّها قابلةٌ للتَّحيُّز Bias بدرجةٍ كبيرةٍ، أو أنّها تفتقرُ إلى المعلوماتِ اللازمة لنفي صفةِ التحيُّزِ عنها، وذلكَ لأنَّها لم تستعرِض كافَّة النَّتائج، ولم توضّح الطرائقَ المتبّعةَ في إجراءِ البحثِ، الأمرُ الذي يقلِّل نسبياً من مصداقيَّةِ النَّتائجِ التي تحمِلها، خاصةً وأن جودةَ المراجعةِ المنهجيَّةِ والتَّحليلِ التُّلويّ تعتمدُ على وفرةِ ونوعيَّةِ المعلوماتِ التي يتم استعراضِها ضمن التحليل.
إضافةً إلى ذلك، فإن النسبةَ الإضافيّة من فيتامين E والحديد قد لا تكون ذات أثرٍ معنوي أثناء التطبيقِ السريريّ في الدراساتِ التغذويةِ على الإنسان، فالحليبُ بشكلٍ عام لا يُعتبر من المصادرِ الأساسيةِ لهذين المكوّنين، مما يقلّلُ من أهميةِ كميّتِهما المرتفعة من وجهةِ نظر بعضِ التغذويّين.
أخيراً، فإنّ هذه النتائجَ لم تنوِّه إلى انعكاساتِ استهلاكِ الحليبِ العضويّ على الصحةِ في المدى البعيد، ممّا يستوجبُ إجراءَ دراساتٍ خاصةٍ بهذا الهدف، كدراسات التعرّض Cohort study أو الدراساتِ العشوائية Randomized study.
أخيراً، نستطيعُ القولَ بأن هذه الدِّراسةَ لم تستطع حلَّ الجَّدل القائمِ حولَ ما إذا كان الطَّعامُ المُنتجُ عضويًّا أفضلَ لصحَّةِ الإنسان أم لا. ففي حينِ أكّد الباحثون أنَّ بعضَ الدُّهونِ المفيدةً موجودةٌ بالفعل بنسبٍ أعلى في الحليب العضويِّ مقارنةً بالحليب التَّقليديِّ، إلا أننّا لم نَتَمكَّن من معرفةِ مدى تأثيرِ ذلك على صحَّة الإنسان، خاصةً وأنّ آلية تأثير الأوميغا-3 وخاصّةً حمضَ ألفا-لينوليئيك ALA على صحةِ القلب وحمايتِه من النوباتِ القلبيّة غير محددِةٍ بعد. كما أنّهُ من غيرِ الحكمةِ أن نفترضَ أن الأطعمةِ والمشروباتِ العضويَّةَ لها تأثيرٌ وقائيٌّ على صحَّةِ القلب دون النظرِ إلى العواملِ الأخرى؛ كالوزنِ، ومستوى التَّمارينِ الرياضيَّة، واستهلاكِ الكحول، وغيرِها من العوامل المؤثّرة، لنعودَ ونُكرّر دائماً أن الصحةَ الجيّدةَ ترتبطُ بنظامٍ غذائيّ وحياتيّ صحيّ متكامل.
المصدر:
هنا