مادةٌ مستخلصةٌ من الحمضيات تدخل عالم صناعة الشوكولا
الغذاء والتغذية >>>> رحلة الغذاء
والآن، هل سألتُم أنفُسكُم يوماً عن سبب ذوبانِ بعض أنواعِ الشوكولا في فمّنا بسرعة، في حين نشعُرُ وكأنّ بعض الأنواع تلتصقُ على لسانِنا كالشمع؟!
تتحدّدُ جودةُ ونوعيةُ الشوكولا من خلالِ نوعِ المادة الدهنيةِ المستخدمةِ في تصنيعهِا، ففي ظلّ وجودِ أنواعٍ مختلفةٍ من المواد الدسمة التي يُمكن استخدامُها لتصنيعِ مزيج من الشوكولا، نجدُ أن تلكَ المصنوعةَ بزبدةِ الكاكاو تحتلُّ المكانةَ الأولى في الأسواق، فنرى المستهلِكينَ يتغنّون بنعومتِها ونكهتِها الغنيّة. إذ تُضفي زيدةُ الكاكاو على المنتجِ النهائيّ مجموعةً من المواصفاتِ الحسيّةِ التي تشدُّ المستهلكينَ وتعتبرُ مرغوبةً لديهِم، مثل اللمعانِ والصلابةِ والقوامِ الناعمِ، وجميعُها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالحالةِ البلّوريةِ لزبدةِ الكاكاو، وهي صفةٌ فيزيائيّةٌ تتعلّقُ بالتركيبِ الكيميائيّ الداخليّ لهذا النوع من الزبدة. فضلاً عن تأثيرِ كلٍّ من العملياتِ التصنيعيّةِ المختلفةِ التي يمرُّ بها المنتجُ، والموادِ المضافةِ إليه على عمليةِ تشكّلِ البلورات ذات الأحجامِ المناسبةِ، وتوزيعِها بشكل صحيح ضمن الكتلةِ الكاملة للشوكولا.
تمتلكُ زبدةُ الكاكاو تركيباً بسيطاً جداً من الأحماض الدهنية مقارنةً بغيرها من الدهون، فهي تتألف في معظمِها من أحماضِ البالمِتيك Palmitic (P)، والستاريك Stearic (S)، والأولييك Oleic (O)، مع نِسبةٍ قليلةٍ من اللينولييك Linoleic (L). تتوزّع الأحماض الدهنية الثلاثةُ الأولى في ثلاثةِ تراكيبَ رئيسيةٍ من الغليسيريدات الثلاثية هي POP، وPOSt، وStOSt وكما يُلاحظُ فإن حمضَ الأولييك غيرَ المُشبعِ يتواجدُ دائماً في الموقعِ المتوسطِ لهذه التراكيب، أي أنّهُ محاطٌ بالأحماض الدهنيّةِ المُشبعةِ من كلا جانِبيهِ وبشكلٍ متناظر. هذا التركيبُ المتناظرُ هو السببَ الأساسيّ لظاهرةِ تعدُّدِ أشكالِ البلّورات في زبدةِ الكاكاو Polymorphism، وتُعرَّفُ هذه الظاهرةُ بأنّها قدرةُ الجزيئاتِ المكوّنةِ للمادة الدهنية على الاصطفافِ والتبلورِ بأشكالٍ متعدّدةٍ، وتختلفُ ثباتيّةُ هذه الأشكالِ نتيجةً لاختلافِ توضُّع الجزيئاتِ الداخليةِ والأبعادِ الفاصلةِ فيما بينها.
كما تُؤثّرُ بعض المضافاتِ على البلّورات المُتشكّلةِ في زبدةِ الكاكاو وبالتالي في المنتجِ النهائيّ من الشوكولا، إذ يعملُ بعضُها على زيادةِ ثباتيّةِ البلّورات، في حين يسبب بعضُها الآخرُ زعزعةَ استقرارِها ويسيءُ إلى ظاهرةِ الانتقالِ من شكلٍ بلّوريّ لآخر، وهي عمليةٌ ضروريّةٌ للوصولِ إلى الشكلِ البلّوريّ الأكثرَ ثباتاً في نهايةِ العمليةِ التصنيعيّة. وتكون الموادُ المضافةُ السائلةُ أكثرَ تأثيراً على ثباتيّةِ المنتجِ والبلورات مقارنةً بغيرِها، فهي تزيدُ من معدّل التحوّل البلوري مانعةً تكوّن الأشكال البلوريةِ المستقرّة والتي تُعطي الشوكولا مواصفاتِها المرغوبة.
من جهةٍ أخرى، يزدادُ تأثيرُ المضافات على مواصفاتِ المنتجِ النهائيّ وعملياتِ التبلورِ عندَ محاولةِ تصنيعِ الشوكولا منخفضة الدهون. فالمادة الدهنية هي العمادُ الأساسي للحصولِ على الشوكولا ذات الخواصِ الصحيحةِ، واللزوجةِ والقوامِ المناسبَين أثناء التصنيع، وتتراوحُ نسبةُ الدهون في الشوكولا بين 30 و34٪، وعليهُ فإنّه من غير الممكن تخفيض هذه النسبة بشكلٍ عشوائي، إذ سيؤدي ذلك إلى تغييرِ اللزوجة ممّا ينعكسُ سلباً على المنتج النهائي الذي سيكونَ ذا جودةٍ منخفضة وخصائصَ غيرِ مرغوبةٍ من حيثُ الشكلِ والملمسِ، وهو أمرٌ يمكن للمستهلِكِ أن يلاحظهُ بسهولة، فضلاً عن صعوبةِ العمليّاتِ التصنيعيّة في ظلّ انخفاضِ نسبة الدهون في المزيج. ولكنّ صناعةَ المنتجات منخفضةِ الدهون أصبحَت هاجساً لدى الكثيرين في يومنا هذا، فكيف السبيلُ إلى صناعة الشوكولا منخفضةِ الدهون دونَ التأثيرِ على صفاتِها التصنيعيّة والحسيّة؟
دأب العديدُ من الباحثين على البحثِ عن مادةٍ مضافةٍ قادرةٍ على أداء وظيفةٍ مشابهةٍ للدهون مع الإبقاء على نفس الطعم والشعورِ القمويّ المرغوبِ، ودنَ التأثير على سلاسةِ العملياتِ التصنيعيّة والتكنولوجية، وهو ما تمكّن العالمُ Beckett الضليعُ في مجالِ الشوكولا وصِناعتِها من التوصّلِ إليه في العام 2011، حيثَ سجّلَ براءةَ اختراعٍ باسمِه في الولايات المتّحدة، ويشيرُ فيها إلى أنّ إضافةَ مركّبِ الليمونين Limonene بنسبة 5% من وزنِ الشوكولا ذاتِ المحتوى المنخفضِ من الدهون قد سمحَ بخفضِ اللزوجةِ إلى الحدّ المناسب كما حافظَ على نعومةِ الشوكولا وقوامِها المرغوب، فضلاً عن سهولةِ ذوبانِها في الفم وتفوّقِها على الشاهدِ منخفضِ الدهون والخالي من الليمونين.
ولكن، ما هو الليمونين Limonene !؟
هو تربينٌ أحاديّ Monoterpene، ينتمي إلى مجموعةٍ من الموادَ التي تتواجدُ بشكلٍ طبيعي في الزيوتِ العطريةِ للحمضيّات مثل الليمونِ والبرتقال. كما أنّه يستخدمُ كمنكّهٍ للطعامِ نظراً لشفافّيَّتِهِ وامتلاكِه رائحةَ الحمضيات المُحبّبة، إضافةً إلى أنه يُضفي على الشوكولا نكهةً لطيفةً شبيهةً بنكهةِ البرتقال. وعلى اعتبارِه مادةً كارهةً للماء بسبب طبيعتِه الكيميائية، يؤثّرُ الليمونين على السلوكِ الفيزيائي لزبدةِ الكاكاو، إذ يمتزجُ معها، ولا يتبلورُ في درجاتِ الحرارة المحيطة (حرارةِ الغرفةِ) ممّا يزيدُ المحتوى السائلَ في كتلةِ الشوكولا ويخفّض اللزوجةَ بالشكلِ المرغوب.
وفي سبيلِ التحقّق ممّا سبق، سعى الباحثُ Annelien Rigolle وزملاؤه من جامعة KU Leuven في بلجيكا إلى اختبارِ الكمياتِ، وآليةِ الإضافةِ المناسبةِ للاستفادةِ من الليمونين ومعرفةِ تأثيرِه الفعليّ على الشوكولا منخفضةِ الدهون، مع إيلاِء تركيزٍ خاص لتأثيرِ ذلكَ على تبلورِ جزيئاتِ زبدة الكاكاو، والتي تعتبر المكوّنَ الأهمّ في صناعةِ الشوكولا.
حضّرَ الباحثونَ عدّةَ مزائجَ من الشوكولا مستخدمينَ تراكيزَ مختلفةً من الليمونين، هي 1%، و2.5%، و5%، و7.5% مع التحريكِ لمدةِ عشرِ دقائق بعد الإضافة، ثم راقبوا عملية التبلور عند الدرجة 17 مْ و20 مْ بواسطةِ الأشعةِ السينية ومسعرِ المسح التَفَرُّسيّ التفريقي (أو مسعرِ المسح التباينيّ) Differential scanning calorimetry.
وجدَ الباحثونَ عند الدرجة 17 مْ أنّ إضافةَ الليمونين أدّت إلى مرورِ بلوراتِ زبدةِ الكاكاو في ثلاثِ مراحل، في الأولى كانت الجزيئاتُ شديدةً التباعُدِ، إلّا أنّها وصلَت في النهاية إلى الشكل المستقرّ بيتا برايم β’ (Beta prime). أمّا عند الدرجة 20 مْ، فقد كان التحوّل أسهلَ وانتقل من البلورات ألفا α إلى البلورات المستقرّة بيتا برايم β’ دون المرورِ بالمرحلةِ الأولى التي تمّت ملاحظتُها عند الدرجة 17 مْ.
وبشكل عام، لاحظَ الباحثون أن إضافةَ الليمونين خفّضت من نسبة البلورات غيرِ المستقرّة، وشجّعت على تطوّرها وتحوّلَها إلى الأشكال البلورية الأكثرَ استقراراً، إلّا أنّ معدّل التحوّل كان أفضل في الدرجة 17 مْ، في حين كان سلوكُ التحوّلِ البلوري مختلفاً عند الدرجة 20 مْ واتّصّف بالبطء مقارنةً بدرجاتِ الحرارةِ الأخفض، وقد يُعزى السبب إلى انخفاضِ عدد البلورات من النوعِ α والتي تُعتبر طليعةَ التحوّل إلى الشكل المستقر β’.
يذكرُ أن اختلافَ تركيز الليمونين المستخدم قد أثّرَ أيضاً على مراحل وسرعةِ عمليةِ التبلور، ولا بدّ من تحديدِ كميةِ الليمونين، ودرجةِ الحرارة التي ستتم عندها الإضافةُ بدقةٍ كبيرة. ومن يعلم؟ فقد نجدُ في الأسواق يوماً ما نوعاً من الشوكولا يحملُ عبارةَ "قليل الدسم"، مع المحافظةِ على المواصفاتِ الحسيّة المرغوبة التي تعوّدنا عليها.
ويمكنكم لتعرّف على رحلةِ صناعة الشوكولا في مقالِنا السابق بالضغط هنا
المصادر:
هنا
هنا