تجاوزات الشرطة تحت مِنظَار العِلم
المعلوماتية >>>> الذكاء الصنعي
تمثّل تجاوزات بعض أفراد الشَّرِطة تّجاه المواطنين في أيّ بلدٍ خطراً كبيراً يُهدّد أمن المجتمع واستقراره، وينْخُر في الثّقة بين المواطنين وحكوماتهم، ما يمثّل ثمناً باهظاً يدفعه الجميع من حاضرهم ومستقبلهم. يمكن أن تظهر هذه التّجاوزات في صورٍ شتّى، بدءاً من التّعامل مع المواطنين بطريقةٍ غير لطيفةٍ، مروراً بالاستخدام غير القانونيّ للقوّة، وحتّى إطلاق النّار بغرض القتل.
مثّلت هذه المشكلة تحدياً كبيراً للكثير من الدّول والمجتمعات، وهو ما دفع بعض الحكومات لاستخدام نظم التّدخّل المبكّر EIS ،وهي نظمٌ تعمل على الحاسوب، لمحاولة تحديد أفراد الشَّرِطة الّذين لديهم احتمالات خطرٍ كبرى للانخراط في أيّ صورةٍ من التّجاوزات تّجاه المواطنين. هي طريقةٌ تشبه فرز التّفاحات المعطوبة من صندوق التّفاح والتّعامل معها حتّى لا نفقد الصّندوق كاملاً.
شكّلت تجاوزات بعض أفراد الشَّرِطة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة مشكلةً كبرى في السّنوات الأخيرة، وخاصةً مع زيادة التّصرفات العنصريّة وتكرار حوادث القتل بإطلاق النّار والّتي هزّت المجتمع الأمريكيّ بشدةٍ، وهو ما دفع الحكومة الأمريكيّة لإطلاق مبادرةٍ لتحسين العلاقة بين المواطنين والشَّرِطة. ترتكز المبادرة في عملها على إتاحة البيانات المتداولة داخل إدارات الشَّرِطة وبين أفرادها بشفافيّةٍ وقد اشترك في هذه المبادرة رجال قانون وباحثون ومتخصّصون في تقنية المعلومات وعلوم البيانات.
يستخدم الكثير من إدارات الشَّرِطة في الولايات المتّحدة نظم التّدخّل المبكّر، وتعتمد هذه النّظم على قائمةٍ محدودةٍ من التّصرفات والسّلوكيّات الّتي تحدَّد بواسطة خبراء، لمحاولة فرز أفراد الشَّرِطة الّذين لديهم احتمالات خطر كبرى للانخراط في أيّ صورةٍ من التّجاوزات، ويكون القرار من بعدها للإدارة بالتّدخّل أو بعدم ضرورته.
يُستخدَم أحد هذه النّظم للتّدخّل المبكّر من قبل إدارة شَرِطة تشارلوت بولاية نورث كارولينا الأمريكيّة، ويعتمد هذا النّظام على قائمةٍ مختارةٍ ومحدودةٍ من التّصرفات والسّلوكيّات، مثل عدد تجاوزات رجلِ الشَّرِطة في فترةٍ محدّدةٍ، حيث يضع النّظام إشارةً حمراءَ تستوجب الانتباه من الإدارة إذا ارتكب فرد الشَّرِطة أكثر من تجاوزَين مثلاً خلال فترةٍ زمنيةٍ محدّدة.
لكنّ النّظم الحاليّة يعيبها كثيرٌ من أوجه القصور:
- في حين أنّ التّصرفات البشريّة معقدة ولها أكثر من نمط، تعتمد هذه النّظم في عملها على قائمةٍ محدودةٍ وسطحيّةٍ من السلوكيّات والمعايير لفرز أفراد الشَّرِطة، فهي تستخدم مثلاً عوامل التّقييم ذاتها على الأفراد الّذين يعملون ليلاً في منطقة خطرة، مع الأفراد الّذين يعملون في فترة صباحيّة بمنطقة عاديّة.
- يعتمد النّظام في عمله على قائمة من عوامل التّقييم المختارة، مما يجعل من الصّعب الحصول على نظامٍ قياسيٍّ يُستخدم على نطاقٍ واسعٍ داخل إدارات الشَّرِطة، لاختلاف ظروف العمل من مكانٍ لآخر، ولظهور عوامل تقييمٍ جديدةٍ باستمرار وهو ما يستلزم تعديل هذه النّظم دائماً.
- يمكن التّلاعب بهذه النّظم بواسطة أفراد الشَّرِطة، حيث أنّها تعتمد على عوامل تقييم ظاهرةٍ للجميع، ما يُمكّن الأفراد من تعديل سلوكيّاتهم بحيث لاتتمكن هذه النّظم من الإمساك بهم، أو التّهرّب من المسؤوليّة وأداء الواجب حتّى لا يرتكبوا الأخطاء.
- لا تستطيع هذه النّظم تقديم درجةٍ لاحتمال انخراط هذا الفرد في التّجاوزات، ولكنّها تضع علامة خطرٍ فقط، مما يحدُّ من فاعليّتها، وهو ما توصّلت إليه الكثير من دراسات وتجارب مراكز الأبحاث.
جيلٌ جديدٌ من نظم التّدخل القادرة على التّعلم:
للتّغلب على نقاط القصور في النّظم الحاليّة، وتحسين عملها لجأ رياض غنيّ وفريقه من مركز علوم البيانات بجامعة شيكاغو الأمريكية (هنا)، لبناء برامج وخوارزميّات قادرة على التّعلّم والتّفاعل مع البيانات، لتّوقع احتماليّة ارتكاب أحد أفراد الشَّرِطة لصورةٍ من التّجاوزات، وكبداية بدأ المشروع في تعاونٍ كاملٍ مع إدارة شَرِطة تشارلوت بولاية نورث كارولينا الأمريكيّة.
تستطيع الخوارزميّات والبرامجُ القادرة على التّعلّم أن تتعلّم من البيانات المتاحة في مجالٍ معينٍ أوعن مشكلةٍ بعينها، لتتمكّن من إنتاج خوارزميّةٍ مناسبةٍ لحلِّ المشكلة وهو ما يُمكّن هذه الخوارزميّات من التّعامل مع مشاكل مختلفة ومتنوعة. وتُعتبر الخوارزميّات القادرة على التّعلّم بمثابة القلب النّابض لمجال تعلّم الآلات، والّذي يُمكّن الآلات والحواسيب من الإبداع لحلّ مشكلاتٍ مختلفةٍ لم يتم برمجتها على حلّها من قبل.
لمزيدٍ من المعلومات يمكن الرّجوع لهذا الموضوع الّذي نُشر من قبل على جزأين عن الخوارزميّات القادرة على التّعلّم وتعلّم الآلة من هنا و هنا.
وضع فريق المشروع مهمةً واضحةً أمام أعينهم: عند وقتٍ معينٍ وليكن س، إذا بدأنا بأفراد الشَّرِطة وبكلِّ البيانات في الفترة ما قبل س، فإنّ النّتيجة هي الأفراد المتوقّع ارتكابهم لأيّ صورةٍ من التّجاوزات في السّنة القادمة.
تعتمد هذه النّظم الجديدة في عملها بشكلٍ أساسيٍّ على البيانات الّتي ستتمّ تغذيتها بها، وحيث أن هناك فئاتٌ مختلفةٌ من البيانات الّتي يتمّ تداولها في عمل الشَّرِطة وإداراتها، فقد تمّ التّركيز على ثلاث فئاتٍ واسعةٍ تمَّ اختيارها بعد مجموعةٍ من الأبحاث والتّجارب:
- السّمات والخصائص الذّاتيّة المتعلّقة بأفراد الشَّرِطة.
- العوامل المتعلّقة بالظّروف المحيطة بعمل أفراد الشَّرِطة، كالطّبيعة السّكانيّة للمنطقة الّتي يعمل بها فرد الشَّرِطة، وخصائص السَّكان في هذه المنطقة مثل العوامل المتعلّقة بالدّين أو العِرق أو العُمر.
- العوامل المكانيّة المتعلّقة بأماكن عمل أفراد الشَّرِطة، فالأماكن الأعلى خطورةً تختلف عن الأماكن العاديّة.
وبما أنّ هذا النّظام يعتمد في عمله بشكلٍ أساسيٍّ على البيانات، فلابدّ أن تُتاح البيانات المطلوبة بشفافيّة وبشكلٍ كاملٍ في الفترة الزمنيّة المحدّدة، وفي هذا المشروع كان مصدر البيانات ما وفّرته إدارة الشَّرِطة في تشارلوت من بياناتٍ متعلّقةٍ بالأفراد والسّجلاتِ الّتي تُسجّل الأحداث اليوميّة وتفاصيلها لكلّ فردٍ من أفرادِ الشّرطة.
- بيانات الشّؤون الدّاخليّة الّتي تُسجّل التّجاوزات وتفاصيلها، بناءً على شكوىً من مواطنٍ أو شكوىً من زميلٍ أو حادثةِ سيّارةٍ أو استخدامٍ للقوّةِ أو أيّ أسبابٍ أخرى.
- بيانات أخرى (شكاوى المواطنين - تعيين الأفراد لحادثٍ معين - سجلّات إلقاء القبض على المتّهمين - سجلّات توقيف المركبات - سجلّات التّحقيق - سجلّات أفراد الشَّرِطة وبياناتهم - سجلّات التّدريب - سجلّات ونتائج نظام التّدخل المبكّر القديم - ..).
ستمثّل هذه البيانات المصدر الّذي ستعمل عليه البرامج والخوارزميّات القادرة على التّعلّم لاستخلاص قائمةٍ بعوامل التّقييم الّتي ستُستخدم لتوقّع أفراد الشَّرِطة الّذين لديهم احتمالات خطرٍ كبرى للانخراط في أيّة صورة من التّجاوزات تّجاه المواطنين. سيُخرِج النّظام لكلِّ فردٍ درجة على مقياسٍ مُعدٍّ مسبقاً توضّح نسبة الخطورة في إقدامه على تجاوزات، ما يُتيح تقسيم الأفراد لفئاتٍ، ويسمح بمرونةٍ أكبر في العمل، بالإضافةِ إلى استخدام الأفضل للمواردِ البشريّةِ المتاحةِ لتحقيق المهام المطلوبة.
احتوت قائمة عوامل التّقييم على أكثر من 432 عامل، وقد خضعت كل هذه العوامل للدّراسة والتّحليل لتحديد العوامل الأكثر وزناً وتأثيراً على حدوث التّجاوزات من أفراد الشَّرِطة. سيساعد هذا الأمر إدارات الشَّرِطة على فهم العوامل المرتبطة بحدوث هذه التّجاوزات بشكلٍ أفضلَ بدلاً من عمل النّظام بقائمة عوامل محدّدةٍ من البدايةِ كما كان الأمر في نظم التّدخل المبكّر القديمة وهو الأمر الّذي يسمح بالتّلاعب بهذه النّظم وينتقص من فاعليتها. وجدت الدّراسة مثلاً أنّ عدد مرّاتِ توقيف المركبات بواسطة فرد شَرِطة معين خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة له وزنٌ وتأثيرٌ أكبر من عدد الشّكاوى المقدمة ضدّ هذا الفرد.
تجربةٌ ناجحةٌ والقادم أفضل!
تمّت هذه التّجربة في تعاون كاملٍ مع إدارة شَرِطة تشارلوت ودعمٍ غير محدودٍ منها، واستُخدمت فيها البرامج والخوارزميّات القادرة على التّعلُّم لتطوير نظامٍ يستطيع فرز أفراد الشّرِطة الّذين لديهم احتماليّة الانخراط في أيّ شكلٍ من أشكالِ التّجاوزات تّجاه المواطنين، وتقديم درجاتٍ بجوار كلِّ فردٍ تحدّد درجة هذه الخطورة ومقدارها لتسهيل إدارة وتوجيه عمليّات التّدريب والإرشاد وعمليّات الدّعم الأخرى.
لقد تفوّق هذا النّظام الّذي اعتمد على البرامجِ القادرةِ على التّعلُّم من البيانات على نظم التّدخل المبكّر القديمة حيث ارتفعت نسبة الدّقة بأكثر من 12% وانخفضت نسبة الخطأ بحوالي 32%.
تُعتبر هذه التّجربة مع إدارة شَرِطة تشارلوت بمثابة النّواة لبناء نظمٍ قياسيّةٍ أكثر قدرةً وكفاءةً على التّدخل بشكلٍ مبكّرٍ قبل حدوث المشكلة. مع الوضع في الاعتبار أنّ بناء علاقةٍ إيجابيّةٍ مستمرةٍ بين الشّرطة والمواطنين يستلزم جهوداً اجتماعيّةً وسياسيّةً واقتصاديّةً تدعمها مثل هذه النّظم الّتي تُستخدم للتّدخّل المبكّر لمنع حدوث التّجاوزات في ذات الوقت الّذي تساعد فيه الشَّرِطة على أداء مهامها بكفاءةِ وفاعليّةٍ.
-----------------------------------------------------------------------
المصادر:
Identifying Police Officers at Risk of Adverse Events
هنا
Can Big Data Help Head Off Police Misconduct
هنا
Launching the Police Data Initiative
هنا