مراجعة رواية (ثلاثية غرناطة): لا وحشة في قبر مريمة!
كتاب >>>> روايات ومقالات
ورث حسنُ خطاً جميل كخط جده، وسليمةُ الحصةَ الأكبر في ولعها بالكتب والقراءة. وسيكون لها ولمريمة -زوجة حسن- الدور في الحفاظ على الكتب العربية المتبقية سراً حتى بعد احتراق جسدها متحولاً إلى رماد. يتزوج هشام ابن حسن من عائشة ابنة سليمة فينجبون عليَّ. يربى في أحضان مريمة على رائحة الخُزامى ويلهو في صندوقها المعشَّق وعصافيره المتراقصة على خشب الزيتون كما لو أنها حية. لا يعرف من عائلته سوى مريمة وجده حسن. طفل تُفرحه الحلوى وينغص عيشه أن تتركه جدته في البيت نائماً لتذهبَ إلى السوق. قُبيل موت حسن، ينادي عليَ ويعلمه اللغة العربية المحظورة سراً. يبقى عليُ ومريمة. يكبر، يعمل، يحب، يغضب، ويفرح، ومريمة بجانبه. لكن عندما رحلت، رحل. هو لا يعلم أن جدته قد خدعت رجالاً قشتاليين كثر وانطلت خدعها التي تمثلها بمرح على السلطات. لم يرها طفلة تكبر وتحمي العائلة والجيران بفطنتها. لكنه سيشعر أنها قد حمت غرناطة وكل ما تبقى فيه عندما حمته.
يرتحل من غرناطة مجبراً ويعود إليها ليرتحل ثانية مجبراُ. قد سجنوه زوراُ، لكن ما واساه معرفة أن له أباُ حياُ، وعمات وأبناء عمات. لكنهم كانوا ملاحقين من السلطات! موحشة هي الحياة بلا قريب، يسلك الطرقات بحثاٌ عنهم، لكن قدره ينتظره. وما حملته قدماه إليه كان أكثر من مجرد أقرباء دم؛ كان قرية كاملةُ.
في ضوء النهار لا تشعر بغربتك ، وما أن تغلق الباب على نفسك ليلاً ترى كم أنت غريب. الحنين أثقل من أن يحمله بشري، لذا تتقوص ظهورنا وننحني بدلاً من أن ننتصب. ربما لذلك الجبال هي الجبال، راسخةً. لا حنين يحفرها ويترك فيها فراغات لتنهار وتنهزم.
كان عليُ يعلم أن حياته نتيجةٌ لأسبابَ ما، يعرف أن هذه الأرض لهم وأنهم طُردوا، لكنه لم يفهمها يوماً. هذه حقائق عاشها جد جده (أبو جعفر) ولم يعشها هو. هل من العدل أن يُنهش لحمُكَ لأنك ولدت في وقت ما في مدينة ما وكان جور حكامها "مترفًا"؟
هل يمكن أن تكون هذه هي النهاية؟ أن لا نهاية! ألن ينتصروا؟ كانت مريمة تقول له أن المراد كلما عز ارتفع ثمنه، لكنهم جُرّدوا من كل شي، حتى من نفوسهم، فأي ثمنٍ يدفعون؟ هل يبقى المرادُ هو المرادَ عندما تُسلب النفوس؟ فالنفس هي التي تريد.
لا يخفى على قرّاء رضوى عاشور أسلوبها المبهر دوماً في سرد الأحداث ووصف الأماكن ورسم الخيالات في عقولنا. لغتها تتسم بعدولها، لا هي بسيطة ولا هي صعبة. وشرحها الدقيق دائماً ما يسرقك لترى نفسك متقمصاً إحدى الشخصيات وكأن حياتها هي حياتك.
هنا جعلت عليَّ مدينة. طفلاً منبثقاً من عائلة مفجوعة من وطأة المصائب، ومريمة الدخيلة الغريبةٌ مفتاحاً وحارساً. يولد علي كما المدينة، في كل تفاصيله وبراءته يمثل مدينة بأسرها. وفي النهاية يرفض الرحيل، يركض ويركض، يرمو قبر مريمة، يرمو الصندوق المعشق الذي أودع فيه الكتب العربية ودفنه في بستان مريمة في بيت البيازين، إذ لا وحشة هناك. لا وحشة في قبر مريمة.
دار الشروق
الطبعة الثامنة 2012
977-09-0737-5