كيف اكتسبت الأفعى المجلجلة سمها وفقدته تطورياً؟
البيولوجيا والتطوّر >>>> التطور
Image: iStock Photo©Anthony Wilson
أفعى مجلجلة من نوع Eastern Diamondback في وضعية دفاع
يقول البروفسور (كارول): "لقد عملنا على فحص سجل الـ DNA بحثاً عن معلومات عن كيفية عمل التطور وإلقاء نظرة على هذه الأفاعي التي تُعدُّ شابةً نسبياً بمقاييس الزمن التطوري، وكانت رؤية الاختلاف الكبير فيما حصل عليه كلُّ نوع بهذا الشكل مفاجئاً. لا يحصل هذا النمط من التغيُّرات الوراثية عادة في هذا المقياس الزمني وبهذه الدرجة."
وجد الباحثون أنَّ مورثاتِ السموم العصبية قد تطورت منذ 22 مليون سنة، وذلك قبل ظهور أولى الأفاعي المجلجلة، الأمر الذي حصل قبل 12-14 مليون سنة، لذا عملوا على دراسة التفرُّعات الفردية في شجرة عائلة الأفاعي المجلجلة، وما وجدوه كان مفاجئاً ومثّلَ تحدياً لكل فرضياتهم الأولية؛ إذ طورت الأفاعي المجلجلة سريعاً اختلافاتٍ متنوعةً كثيراً بفقدانها المورثات، ما أدى إلى تنوُّع أعداد مورثات السموم وأنماطها.
لقد حُذف لدى كل سلالة من الأفاعي المجلجلة مورثتان إلى أربع مورثات مُشفِّرة للسموم حذفاً كاملاً مقارنةً بسلفها المشترك، بينما بقيت مورثاتٌ لنوعٍ فرعي واحد من أنواع السموم، واختلف صنف المورثات الذي أبقته كل سلالة. تتصفُ المورثات التي لم تعدْ ضروريةً في أغلب الأنواع المدروسة بمكوثها مدةً طويلة في الجينوم قبل أن تزولَ في النهاية، فعلى سبيل المثال، ما زال من الممكن رؤيةُ بقايا عائلة مورثاتِ المستقبلات الشمية الكبيرة في الجينوم البشري -هي التي منحت أسلافنا في العملية التطورية القدرةَ الكبيرةَ على الشم- رَغم أنَّ البشرَ لا يعتمدون حالياً على هذه البقايا، إلّا أنَّ ما لاحظه البروفسور (كارول) وفريقُه هو فقدانٌ سريعٌ غير معتاد للمورثات.
كلُّ ما سبق ذكرُه جعلَ الباحثين يتساءلون: "كيف يُمكن أن تمتلكَ الأفاعي هذه الأسلحةَ كثيرةَ التنوُّع وكيف تطورت وتنوعت بسرعة؟"، فضلاً عن التساؤل عن السبب الذي جعل الأفاعي تحذف حذفاً تاماً مورثاتِ عدة أنواع من السموم، فعمِلَ كلٌّ من (مات جورجاني Matt Giorgianni) و (نوح دويل Noah Dowell) دون كَلَلٍ بهدف تحديد ما يسمونه "أمر الولادة Birth order" الخاص بمورثات السموم بهدف معرفة الزمن الذي ظهرت فيه للمرة الأولى والزمن الذي حذفت كل سلالة من الأفاعي المجلجلة هذه المورثات. فلو افترضنا أنَّ المورثاتِ كانت قطاراً، سيماثلُ الأمرُ معرفة الترتيبِ الذي كانت ترتبط بناءً عليه عرباتُ هذه القطار، والوقتِ الذي فقدت فيه كل سلالة من الأفاعي المجلجلة عرباتٍ متفرقةً من القطار. وصل الباحثون في البداية إلى أنَّ Western and Eastern Diamondbacks فقدا بشكلٍ مستقل مورثات السموم العصبية قبل ما يُقارب 6 ملايين عام، بينما خسرت أفعى Mojave المجلجلة مورثة السم العضلي قبل 4 ملايين عام، والمهم هنا أنَّ الباحثين علموا الكيفية التي حصل بها ذلك.
تقبع المورثات التي تصنع البروتيناتِ السميةَ ضمن مُعقَّد يتضمَّن نوعاً من التسلسلات الوراثية يُسمى العاملَ القابلَ للنقل (transposable element)، وهذا العامل يتألف من الأحرف النكليوتيدية نفسِها التي تُشفِّرُ كامل المادة الوراثية، لكنَّه يُشَفِّر في بعض الأحيان فقط للمورثات التي تقود إلى صنع بروتينات. على أي حال، مَهمة هذا العامل تسهيلُ تضاعف المورثات ضمن المعقد، وتسهيل عملية حذف المورثات. وكما يقول (جورجاني): "يُمكن تخيَّل عملية ديناميكية حقيقة وسريعة لدى الأفاعي المجلجلة، إذ يقوم هذا الموضع (امتداد الـ DNA) بما يشبه التنفس فيتمدد ويتقلص، وهذا الأمر يشيرُ بالفعل إلى مدى ديناميكية هذه المنطقة الوراثية، ويعطي تصوُّراً عن مدى السرعة التي يُمكن أن تحدثَ بها هذه الأمور." ولا يقود هذا الأمر فقط إلى الاختلافات غير الاعتيادية في السموم بين الأنواع، بل وجد الباحثون أيضاً تنوعاً في المورثات ضمن الأنواع أيضاً.
تحرى (دويل) و(جورجاني) -بمساعدة الباحثة (إلدا سانشيز Elda Sanchez) من المركز الوطني لبحوث السموم- أربع أفاعٍ من نوع Western diamondback ودرسوا معقدَ مورثات السموم، فوجدوا أنَّ واحدةً من الأفاعي امتلكت مورثتي سموم إضافيتين لم تمتلكها الأفاعي الثلاث الأخرى، فضلاً عن تغيُّراتٍ أخرى ضمن المعقد.
لقد أصبح هذا التفسيرُ الوراثي ممكناً أخيراً بفضل التقنية المختبرية التي سمحت بتنفيذ تسلسلٍ عالي الجودة لمناطقَ محددةٍ من الجينوم، لكنَّ الباحثين درسوا مناطقَ نادراً ما تُدرَس وهي المناطقُ من الجينوم التي لا تعبِّر عن بروتينات، ما مكَّنهم من "التحديق عبر نافذة تطورية يتجاهلها أغلب الباحثين" كما يقول البروفسور (كارول).
لا يُمكن للباحثين معرفةُ سبب تخلي الأفاعي عن بعض أسلحتها، ولكنهم يعتقدون من ناحية بيئية أنَّ ذلك قد يرتبط بالظروف الفردية التي تعرَّض لها كل نوع عبر الوقت، وربما كانت فرائسهم أكثر عرضة لنوع من السموم، أو ربما طورت هذه الفرائس مقاومةً لنوع من السموم ولم تطورها لغيره، إذ يُمكن تشبيه الأمر بسباقِ تسلُّح بين المُفترس والفريسة، ما يزيد ضغوطَ الانتقاء التطوري وبالتالي تحدُث عملية التطور بوتيرة أسرع من المعتاد.
هذا، ويأمل الباحثون بدراسة جينوم تلك الأفاعي بشيء من التفصيل والوقوف على أسراره والحِيَل التطورية التي سلكتها تلك الكائنات السامة عبر تاريخها التطوري الذي لا يزال يكتنفه الكثير من الغموض...
المصدر: هنا
الورقة البحثية: هنا