الواقع بين الحقيقة والمظهر
الفلسفة وعلم الاجتماع >>>> علم الاجتماع
"الأشياء ليست كما هي في المرآة"
إذا ماهو الفرق بين الواقع الحقيقي والمظهر الساتر على حقيقة أخرى؟ هل الواقع الذي نعيش فيه من زمان ومكان هو حقيقة مجردة عن أذهاننا وما نفكر فيه؟ أم أنه مجرد انعكاس لطبائعنا وأفكارنا نحن البشر؟
إنّ أي شخص سبق له أن شاهد فيلم"The Matrix" الذي صدر عام (1999)، سوف يعرف أن الفرضية الأساسية للفيلم هي أننا نحاكي واقعنا في أذهاننا عن طريق ذكاء الكمبيوتر. بيد أن الفكرة القائلة بأن الواقع الحقيقي هو محاكاة مجردة ليست جديدة. يرجع جوهر الفكرة فعلياً إلى الصين حوالي العام 300 قبل الميلاد على الأقل، حيث سأل الفيلسوف زيوانتجي بطريقة حالمة: "هل أنا رجل يحلم أنه فراشة، أو أنا فراشة تحلم أني رجل؟"
جادل زيوانتجي مع مسألة ما إذا كان الواقع كما هو خبِره أو أنه كان مجرد نتاج حلم. بكل الأحوال (سواء كان الواقع حلماً أو لا، فالأحلام هي فقط محاكاة للواقع. الحلم هو نتاج العقل وحده، معزولاً عن العالم الخارجي).
في القرن السابع عشر، تطرق الفيلسوف وعالم الرياضيات الفرنسي رينيه ديكارت إلى ذات النقطة، قائلاً "ليس فقط من خلال التشكيك يمكننا أن نعرف ما إذا كنا مستيقظين أو حالمين، ولكن أيضا من خلال "شيطان الشر". وكانت تلك فرضيته التي تنص على أن كل شيء نجربه ونتصوره أو نعتقد به، يمكن أن يكون هلوسة تغذيها لنا شياطين قوية، خبيثة، هدفها الوحيد هو خداعنا.
وقد أعاد فلاسفة العصر الحديث صياغة "فرضية المحاكاة" –أي أننا قد نعيش في محاكاة– وراء هذه الأشكال الخارقة للطبيعة. على سبيل المثال، احتج هيلاري بوتنام المولود عام (1926) بأنه من الممكن أن كل فرد عبارة عن مجرد دماغ يتم إمداده بالحواس والبيانات عن طريق أقطاب موصولة إلى كمبيوتر. وفي هذه الحالة، في كل مرة نعاني لذة الطعام، الجنس، الإحساس بالحرارة، أو رائحة زهرة، فيكون المصدر الخارجي لهذه التجارب هو المعلومات المخزنة في الكمبيوتر فقط، والتي يتم تغذيتها بالبيانات مباشرة في عقولنا.
بطبيعة الحال، لمجرد القدرة على تصور هذا السيناريو لا يعني أنه معقول. يتطلب الاعتقاد بأنه من الممكن، مجموعة من الافتراضات، على سبيل المثال، أين أجهزة الكمبيوتر التي يمكنها محاكاة الواقع بهذه الطريقة؟، وكيف لمصممي مثل هذه الأجهزة محاكاة الواقع بهذه الطريقة.
اتخذ بعض المفكرين المنطق المستخدم من قبل بوتنام وصناع فيلم The Matrix إلى حدود جديدة. وقد اقترحوا أنه في الواقع لا توجد حتى العقول. بدلاً من ذلك، يوجد الكون المادي نفسه، وبالتالي كل ما نعرفه، بما في ذلك أي شيء عن العقول، هو محاكاة تولدها بعض الحضارات المتقدمة في جهاز كمبيوتر.
احتج الفيلسوف نك بوستروم من جامعة أكسفورد أنه بسبب اتساع الكون، يجب أن يكون هناك حضارات متقدمة من الناحية التكنولوجية ولديهم القدرة الحاسوبية لمحاكاة عوالم كاملة. ولعل هذه الحضارات قد تكون قادرة على تسخير قوة الحوسبة الكمية. ولكن مهما تمكنوا من محاكاة أكوان، يدعى بوستروم أن إذا حضارة يمكن أن تفعل ذلك، فأنها سوف تفعلها، نظراً لأن التكنولوجيا المتقدمة تنشأ من مستويات عالية من الفضول. ويفسر ذلك حتى لو كانت تلك الحضارات نادرة، وبالتأكيد سوف يتمكنوا من إنشاء المحاكاة لعديد من الأكوان، ومحاكاة لعمليات أخرى من المحاكاة، حيث أنه في نهاية المطاف عدد عوالم المحاكاة سيكون حتما يفوق عدد العوالم الحقيقية. ذلك يجعلنا أمام احتمال أننا في عالم محاكاة أنفسنا، على ما يبدو.
سوف ينطبق بالتأكيد التفكير لدى بوستروم حول الدافع للجنس البشري، كما يبدو أننا بحاجة إلى إرضاء الفضول لدينا بأي ثمن. فلقد تسللنا من الواقع إلى أعماق الذرة، حتى ولو أدى هذا إلى اختراع القنبلة الذرية. وحتى لو كانت المحاكاة قد تؤدي إلى نطاق واسع من المعاناة، الحجة أن الفضول سوف يتفوق على المشكلة الأخلاقية من قبل علماء هذه الحضارة المتقدمة. إحدى الافتراضات الحاسمة، أن هذه حضارة ستعتقد بنفس الطريقة التي نقوم بها. وربما يكون لدى الحضارة التي تطورت عالياً ما يكفي من الأخلاق لئلا تتمكن من محاكاة أكوان تعاني فيها الكائنات مثل أنفسنا.
تلقت الادعاءات التي تقول أن الكون يمكن أن يكون محاكاة حاسوبية الكثير من الانتقادات من عدد من علماء الفيزياء. ويقول جون بارو، على سبيل المثال، في "كتاب اللانهائية" الصادر عام (2005) إذا كان الكون محاكاة سيكون هناك قرائن لهذا النموذج تتمثل في الأخطاء أو الثغرات في عملية البرمجة – أي السلوك الظاهر للكون المادي. هذا لأن حتى الحضارة العظمى قد لا تعرف كل شيء فعليها معرفة الآثار المترتبة على قوانين الفيزياء المبرمجة في واقعها المصطنع، ولن يكون لديهم قوة المعالجة التي لا حصر لها.
حتى الآن، يبدو، أننا لم نصادف أي من هذه الأخطاء. احتج كاتب العلوم الشعبية جون غريبن أيضا في مقالته "البحث عن الأكوان المتعددة الصادرة عام (2010) أن الكون من المحتمل كثيرا أنه قد نشأ من ثقب أسود على أن يكون من محاكاة كمبيوتر. وأشار إلى أنه سيكون من الأسهل بكثير للحضارة العظمى لخلق الكون بخلق ثقب أسود عن طريق محاكاة الطاقة، الموقف والسرعة لكل الجسيمات في الكون بأكمله. القدرة الحاسوبية الضرورية لهذا العمل الفذ أبعد من الحوسبة.
لذلك، رغم أنه من الممكن أن الحضارة العظمى أن تخلق عالمنا، في جميع الاحتمالات أنها ستستخدم الثقوب السوداء، لا الحواسيب الخارقة، للقيام بذلك. وعليه فإني أقول أن مهما اختلف المنظرون في حقيقة واقعنا سواء كان نتيجة طبيعية للحلم أو لفكرة معينة في أذهاننا أو حتى إن كان مجرد محاكاة لما يتم صنعه في عالم التكنولوجيا فإن البحث في هذا المجال
سيبقى قائمة ما بقيت البشرية مستمرة.
المرجع:
هنا