تفسير نشوء الحياة و تطورها والوعي بضربةٍ فيزيائيةٍ واحدة
الفيزياء والفلك >>>> فيزياء
لتتّضح علاقةُ الفيزياءِ بكلٍّ من الحياةِ والوعي، علينا أولاً فهمَ القانونِ الثّاني للتّحريك الحراريّ "Thermodynamics"، فبرغمِ بساطتهِ إلّا أنّه من أهمّ قوانين الفيزياء؛ لأنّه يصفُ الحالةَ العامّة للكونِ أو لأيّ نظامٍ بشكلٍ عامّ، وينصُّ على أنّ ""الإنتروبيّة" أو "الفوضى" في أيّ نظامٍ مُغلقٍ، تزدادُ لأقصى قيمة بمرورِ الزمن".
فمثلاً، تتبدّدُ الحرارةُ من كوبِ الشّاي السّاخن في أرجاء غرفتكَ بمرورِ الوقت، حتّى تتساوى درجةُ حرارةِ الغُرفةِ مع درجةِ حرارةِ كوبِ الشّاي ويحصلُ توازنٌ حراريِّ. نستطيعُ القول إنّه حين كانَ كوبُ الشّاي ساخناً فإنّ الغرفةَ كانت منظّمةٌ أكثرَ منها حين بردَ الكوب، لأنّ الحرارةَ كانت مجتمعةٌ في مكانٍ واحدٍ ويُمكنُ حصرُها والاستفادةُ منها في طعم الشّاي مثلاً، لكن حينَ فقدَ كوبُ الشّاي حرارته أصبح من الصّعبِ الاستفادةُ من حرارته لأنّها توزّعت بالتساوي على الغرفة و محتوياتها.
كذلك الأمرُ عندما نقوم بخفق البيض مثلًا. فتصبح مكوناتُهُ مُختلطة بشكلٍ عشوائي وليس لها أي ترتيب أو نمط واضح، ولا يمكنُ استعادةُ حالة بيضة مخفوقة إلى ما كانت عليه قبل عمليّة خفقها، لأنهُ من غير الممكن تمييز مكونات البيضة بحيث نعيد ترتيبها مجددًا، ولهذا نقولُ إنّ إنتروبيّة البيضة قد ازدادت.
لا يمكن عودة الحالة الأصلية للنظام تلقائياً، بحيث تنعكس العملية فتتناقص الإنتروبية. ففي حالة كوب الشاي، لن تقلُّ فوضى الغرفة تلقائيا وترتب الحرارة نفسها كما كانت وترجع لكوب الشاي فيصبح ساخناً، وبالتالي لن تستطيع تذوق كوب الشاي الساخن ثانية، بل عليك استعادة الحرارة المفقودة من الغُرفة والعودة بها لكوب الشاي، وذلك يتطلب بذل طاقةٍ من مَصدرِ آخر، أو ببساطةٍ تسخين الشاي مجددًا باستخدام طاقة من مصدر آخر. أمّا في حالة البيضة المخفوقة لن تتجمّعَ محتويات البيضة تلقائيا بحيث تُرتّبَ نفسها بأي طريقة لتعود البيضة كما كانت وتصبح أكثر إنتظاماً، بل ينبغي عليك أن تجمّعَ محتويات البيضة وتُرتّبَها بطريقة ما لتُنتجَ البيضة المنتظمة ذاتها قبل عملية الخفق، وذلك سيتطلب منك بذل طاقة من مصدر آخر أيضاً. أي أنه في كل محاولاتك لتقوم بعكس العملية، ستقوم بنقل طاقة من مكان آخر أكثر انتظاما لمِكان أقل انتظامًا، وهذا يعني أن النظام مفتوح وليس "مغلق" كما ينص القانون، لأنك أدخلت عليه طاقة من نظامٍ خارجيٍ آخر.
وبالتالي، حينما تحاول عكس العملية وتقلّل فوضى نظامك فإن فوضى نظامك قد تنخفض فعلياً، لكنك إستخدمت طاقة من مصدر آخر في تلك المحاولة، وهذا يعني أن فوضى النظام الآخر الذي إستخدمت منه الطاقة، قد زادت بسبب محاولتك لتقليل فوضى نظامك، وبالتالي فعند حساب مجموع أنتروبية النظامين معا ستجدها قد زادت، فمحاولتك لتقليل إنتروبية نظام ما بدوره سيُسبّب زيادة الإنتروبية الكلية للنظم مجتمعة (التي تستمد منها الطاقة والتي تحاول ان تقلل فوضويتها)، نفهم من ذلك أنّ عملية الإنتروبية تسير باتجاهٍ واحدٍ من الأكثر انتظاماً إلى الأكثر فوضوية، أي لا يمكنُ عكسُ إتجاه الإنتروبية بحيث تقل بمرور الزمن، ولهذا فإنّ اتّجاه مرورِ الزّمن الّذي لا يُمكن عملياً أنّ يعودَ للخلفِ مرتبطٌ ارتباطاً وثيقاً بالإنتروبيّة.
Image: Word press
- كيف يُفسّر التّحريك الحراريّ نشوء الحياة؟
في عام 2014، اشتق جيرمي إنجلاند البروفيسور المساعد في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا معادلة رياضية تحاول أن تنظرَ للحياةِ من وجهةِ نظرٍ فيزيائيّةٍ، تُفسّرُ نشوء الحياةِ على الأرضِ باستخدامِ القانون الثّاني للتحريك الحراري، أو من خلال الإنتروبيّة.
هناك أشكالٌ أو هياكلُ تمتازُ بأنّ تبديدها للطّاقةِ أسرعُ من أشكالٍ وهياكلَ أخرى، بسببِ خصائصها الفيزيائيّةِ والكيميائيّة، وبالتّالي فإنها أفضل في امتصاص وتخزين وتبديد الطاقة، وبالتّالي فهذه الهياكل تعمل على زيادة الإنتروبيّة أو الفوضى الحراريّة،
لذلك عند ظروف معينة مثل اختلاف وتغير درجات الحرارة، يُمكنُ للذرّات والجزيئات أن تنتظم معاً لتكوين هياكلَ أو أشكال أكثر فعالية في التعامل مع الطاقة الحراريّة ممّا لو كانت ذرّات أو جزيئاتٍ منفردة، هذه الهياكل والأشكال تكون كفاءتها أكبر في امتصاص الطاقة الحرارية أو تخزينها أو حتى تبديدها والتخلص منها بسرعة أكبر مما لو كانت ذرات أو جزيئات منفردة، أي أنه يمكن لأي نظام جديد أن يظهر كنتيجة للتبادل الحراري بين المواد المختلفة لأن هذا النظام الجديد أصبح أكفأ في عملية التبادل الحراري عند درجة حرارة معينة، وتتمثل عملية التبادل الحراري هذه في القدرة على الامتصاص والتخزين والتبديد، فمثلا عند انخفاض درجة الحرارة سيكون النظام القادر على امتصاص وتخزين كميات اكبر منها هو الأكفأ، وعند ارتفاعها سيكون النظام الأسرع في التخلص منها وتبديدها هو الأكفأ، ويتبدل هذا النظام بغيره أو تُغيّر الذرات تنظيمها تلقائيا بإختلاف درجة الحرارة، وهنا يظهرُ تعاونُ الذرّات معاً ميكانيكيّاً وبغير وعيٍ لتشكيل جزيئات ومركّبات المواد العضوية كالبروتينات والمواد الحيّة كالخلايا، من خلال تبادل الطّاقة الحرارية أثناء تغيّر درجة الحرارة، وهنا تظهر نُظُم الحياة المعقدة ميكانيكياً بطريقةٍ بسيطة ورائعة.
كيف يفسر التحريك الحراري تطور الحياة وفقًا لدراسة جيرمي إنجلاند؟
هذه النُظم الحية المُعقدة الّتي تَنشأ، تزداد تعقيداً بِمرورِ الوَقت بِفضل الإنتروبيّة، يساعدها هذا التعقيد في الحصول على طاقة وموارد أكثر بشكل عام. وقد يؤدي تعقيد الأنظمةٍ إلى إعاقة بعضها بعضاً في الحصول على الطاقة والموارد، بسبب التبديل او التغيّير والتعقيد المُستمر للأنظمة، وهذه الإعاقة تؤدي إلى تغيير البيئة وجعلها أكثر قساوةً وبالتالي تشكيل ضغط تطوري على تلك النظم. لكنّ النظام الأقوى والأسرع في التكيف هو من يُهيمن على الطاقة والموارد أثناء تلك الضغوط التطورية، وبالتالي يكون صالحاً للبقاء، لِذلِك يبقى فقط القليل من النظم الحيّة التي تنشأ بفضل الإنتروبية، بينما تفنى النظم الأخرى التي لم تفلح في الحصول على الطاقة التي كانت تستطيع الحصول عليها سابقاً.
وبالتالي فإن الأنظمة القادرة على توظيفِ الطاقة لتطوير نفسها والتكيّف بشكلٍ أسرعَ مع البيئة والتغلب على الأنظمة الأخرى من خلال تطوير الأدوات الملائمة للبقاء (كالهجوم، الدفاع والخداع، الهروب) هي الّتي تبقى وتهيمن في ظل البيئة الجديدة، وذلك وفقاً للانتخاب الطبيعي والذي يحدد أي الأنظمة تبقى وأيها يفنى. وهذا يعني أن نظرية داروين للتطور بالانتخاب الطبيعيّ مُجرّدُ حالةٍ خاصّة من القانون الثاني للتحريك الحراري.
عرّف شرودنغر الحياة على أنّها مقاومةُ الفوضى أو الإنتروبية. ولكن الفوضى أو الإنتروبيّة نفسها طبقاً لهذه الدراسة هي من أوجدت الحياة، أو بمعنىً آخر؛ إنّ الحياةَ نفسها حالةٌ خاصّةٌ من حالات تغير المادة نتيجة التبادل الحراري الذي بدوره يعمل على ازدياد الفوضى أو الإنتروبيّة، وبالتالي فإن الحياة مجرد حالة خاصة من الفوضى ونتيجة لها، وليست مقاومة لها.
ولتتضح علاقة التّحريكِ الحراريّ بالوعي، علينا أن نتعمّقَ أكثرَ في نظرتنا للإنتروبيّة. لا تتعلّق الإنتروبيّة بالطّاقة الحراريّة فقط، فمن الممكن أن تكون في شكل التّنظيم. فمثلاً أيَ شكلٍ منظم يتكوّنٍ من وحداتٍ صغيرةٍ منتظمةٍ معاً على هيئة صفوفٍ فإنَ نِسبةُ الفوضى أو الانتروبيّة، تزداد في ذلك الانتظام كلّما تحرّكت وحدةٌ من الوحدات المكونة له بأيّةِ حركةٍ عشوائية لأيّ سبب، حتى تصلَ لحالةٍ عشوائيةٍ جدًا بحيث لا نستطيعُ فيها تمييزَ الصّفوفِ الّتي كانت موجودةً في البداية.
من الممكن أن نعتبر شكل التنظيم المكون من صفوف في مثالنا مجرّد معلومات، لأن شكل التنظيم يعتمد مثلا على نوعية وحجم الصفوف وكذلك نوعية وحجم وعدد الوحدات المكونة لتلك الصفوف وشكل الترتيب بينها وغيره. فنعتبرُ كل هذه الخصائص معلومات لأننا لا نستطيع التمييز بين الأشكال أو الأنظمة المختلفة إلا بناءا على تلك الخصائص في كل شكل أو نظام. تحدث الضبابية في تلك المعلومات كلما ازدادت أنتروبيا النظام، أي كلما تحركت وحدة صغيرة من التنظيم خارج الصف بشكل عشوائي بلا أي نظام محدد مما يُسبب تغييرًا أو زيادةً في المعلومات التي نحتاجها لوصف ذلك الشكل أو النظام، وبالتالي يُمكنُ أن تكونَ الفوضى في معلومات التنظيم، لأن الشكل الكلي للتنظيم تغير بنسبة ما، جعلت الشكل أقرب للتماثل، وبالتالي صعوبة تمييز أجزائه وحتى صعوبة تمييز الشكل عن غيره.
Image: SYR
ولنفهم إنتروبية أو فوضى المعلومات بشكل أدق سنأخذ مثال أكثر دقة وبساطة: صورةٌ من الورقِ أو من الجلدِ لحبيبتك، تحفظها في إطارٍ زجاجيّ أو خشبيّ على الحائطِ، تهتمّ بها وتمنعُ عنها كلّ عواملِ الفسادِ أو عواملِ زيادة الإنتروبيّة، لكن بمرورِ الزّمن تجدُ أنّ ألوانها أصبحت أقلّ حدّةً تلقائيّاً وتداخلت معاً، وبعد آلافِ السّنين بفرض أنك ستعيش كل هذه المدة، لا يُمكنُ لأحدٍ ولا حتّى أنت أن تميّز أنّ حبيبتكَ هي الّتي في الصّورة، وهذا بسببِ زيادة إنتروبيّةِ الألوان أو فوضى المعلومات في الصورة.
Image: quoracdn.net
نقيسُ فوضى المعلومات بنسبةِ انتشارِ المعلوماتِ في أيّ نظامٍ، أي بنسبة ما حدثَ من تماثلٌ وضبابيّةٌ في المعلوماتِ في أرجاءِ النّظام كلّه وبنسبة فقدنا القدرة على تمييز اجزاء هذا النظام؛ كانتشار الحرارةِ من كوب الشاي في غرفتك حتّى يحصلَ اتّزان حراريّ، أو اختلاط محتويات البيضة بعد خفقها حتّى تفقد القدرة على تمييز محتوياتها، أو تداخل الوان صورة حبيبتك وبهتانها حتى تفقد الصورة معناها القديم، وتتحول من صورة لمجرد ورقة لا تحتوي أي معلومة يمكن الإستفادة منها.
كيف تفسر إنتروبية المعلومات الوعي؟
قام فريق بحثي من فرنسا وكندا بجامعة تورنتو وجامعة باريس ديسكارتس في أواخر عام 2016، بعمل دراسة جديدة أكثرُ تقدّماً، تُحاولُ تفسيرَ الوعي كظاهرةٍ منبثقةٍ من تأثيرِ القانون الثّاني للتحريك الحراري والّذي ينصّ على أنّ المادّة تميلُ لتحقيقِ أقصى قيمة للإنتروبيّة بمرور الزّمن، ليس أقصى قيمةٍ لإنتروبيّة الطّاقةِ الحراريّة فقط مثلما حدَث ويحدُث في تكوين المواد الحيّة، وإنّما أقصى قيمةٍ لإنتروبيّةِ المعلومات أيضا، فالوعي طبقا لهذا الدراسة حالةٌ ناتجةٌ عن ميلِ مادّةِ المخّ لفوضى المعلومات، أو تبادل المعلومات خلال الوصلات العصبية في المخ، وبالتالي انتشارِ وتماثل المعلومات في الخلايا العصبية، تماما كما تميل المادة للتبادل الحراري، وبالتالي فالوعيَ مجرّدُ حالةٍ ماديّةٍ للمخّ يكونُ تبادلُ المعلوماتِ فيها أقصى ما يُمكن، وبالتّالي تحقيقُ أقصى قيمةٍ لفوضى المعلومات أو لأنتروبيّة المعلوماتِ في المخّ، وتحقيقُ أقصى قيمةٍ للفوضى أو لأنتروبيّةِ المعلوماتِ في المخّ هو حالةٌ خاصّةٌ من ميلِ المادّةِ لتحقيقِ أقصى قيمةٍ للأنتروبيّة في التحريك الحراري،
إنّ أقصى قيمة لفوضى المعلوماتِ تحدثُ في المخّ حصراً بسببِ قدرة خلاياه العصبية على تبادلِ المعلوماتِ ونشرها من خلال الأعدادِ الكبيرةِ من الوصلاتِ العصبيّةِ بين تلك الخلايا العصبيّة وبعضها في المخ.
المصادر:
هنا
هنا