حوار مع الفنان عمر إبراهيم
الفنون البصرية >>>> فنان سوري
علاقتي مع الفن علاقةٌ ممتدةٌ منذُ أكثرَ مما أستطيع تحديدَ زمنهِ، أذكرُ أني لطالما كنت أرسم وأنحت وأعالج أيَّ مادةٍ من الممكن أن تقعَ بين يدي بشكلٍ فنيٍّ لأُخرجَ منها شيئاً قيّماً للحياة، ولكن تفرُّغي من أجل الفن بدأ منذ عام 2002م لأعمل بشكلٍ احترافيٍ بعد تخرجي من جامعة دمشق-كلية الفنون الجميلة- قسم النحت.
• هل يوجد في عائلتك فنان أو فنانة؟
باستثناءِ أحدِ أبناء عمومتي-المايسترو وَالمؤلف الموسيقي وسيم إبراهيم- ليس في عائلتي من يعمل باحترافٍ في المجال الفني بالمعنى الأكاديمي، ولكن قد يكون ما حَمَلته عائلتي من ذائقةٍ جماليةٍ عاليةٍ في العديد من تفاصيلِ الحياةِ اليوميةِ كالموسيقى المختارة في البيت وتفاصيل تأثيث المسكن وأناقة اللباس وتنظيم حديقة المنزل وبالأخصِّ والدي الذي كان يمتلكُ قدرةً على صناعة بعض الأشياء البسيطةِ وتوظيفها بالشكل الأمثلِ في المنزل بطريقةٍ جميلةٍ، الأمُر الذي قد يكون قد أثَّر فيَّ شخصياً ولكنه بالتأكيد لم يكن سببَ اتخاذي القرارَ باحتراف العملِ الفنيِّ والبحثَ فيه بقدرِما كان ربما تركيبي الشخصي حينها وميلي لأعملَ ما أحبُّ في تلك الفترة مادفعني لأسلك هذا الطريق.
• من كان الداعم الأكبر لك في مشوارك الفني منذ بداياتك؟
أحلامي التي لا تعرفُ الحدودَ هي أكثر من ورطني، وميلي للعزلة وعائلتي بكلِ تأكيدٍ، التي وافقت بطريقة أو بأخرى على تحدي وضعنا المعيشي غير الجيد حينها لأفعل ما أحبُّ، ولا أودُّ إغفالَ دورَ المدرسةِ والأصدقاءِ الذي كان متحدياً أحياناً ومشَّجعاً أحياناً أخرى.
• إلى أيِّ مدرسة ينتمي الفن الذي تقدِّمه؟
لا أميلُ إلى تحديدِ ما أعملُ عليه ولا أُخضِعهُ لأي انتماءٍ مدرسيٍّ بالمعنى المباشرِ للكلمةِ، بقدرِ ما قد يحملُ عملي أحياناً بعضاَ من ذاك التيار أو تأثيرٍمن آخرٍ، ولكن عموماً قد يكون أكثرُ ما أعمل عليه ينتمي إلى التيارين الواقعي والتعبيري طالما أني لا أزال أعتمدُ بعضاً من واقعية الشكل والقدرة على تحويره وتشويهه، مع طريقة تفكيرٍ رمزيةٍ أستخدم فيها المجازَ البصريَّ لإيصال فكرتي. الحاجةُ للتعبير تملي عليَّ الاتجاه المدرسي الذي قد أستعين به كحاملٍ تعبيريٍّ، حيث أسيرُ بالعمل أشبهُ بمخمورٍ يدخل حديقةَ أزهارٍ متنوعةٍ يختارُ باقته ليقدِّمها لمن يُحبُ ولما يحب. ولكن أكثرُ ما يسرُّني هو الانتماءُ لصوتيَ الداخلي وما يمليه عليَّ. أنتمي كثيراً لصرخةٍ ما بداخلي قد تحمل الغضبَ أو الحزنَ أو الفرحَ أرميها في وجه عبثية هذا العالم وعدم مبالاته أحياناً، وللحاجة في الشعور بالإنعتاق والفَكاكِ والحريةِ من بعض الثقل المعتمِ للمادةِ في حياتنا أحياناً أخرى.
ما التقنيات الأساسية المستخدمة في لوحاتك؟
غالباً ما أعمل بالأحبارِ الصينية والأكريليك كمواد أساسية لعملي في مجال التصوير، وفي النحت أستخدم المعدن المهمل والمُرمى لأعيد تدويره وصياغته، ولكني غالباً ما أصف أعمالي ضمن تصنيفِ (موادٍ متنوعة على القماش) إذ أنَّ اللوحةَ هي غالباً ما تكون لدي كمختبرِ تجاربٍ قد أُدخل فيها أي مادةٍ أراها مناسبةً في خدمة المفهوم الذي أعمل عليه أو الفكرة أو حتى الرغبة التي أعملُ من أجلها، كذلك فإن طبيعةَ العمل وحاملَ الموضوع هما من يحددان نوعَ التقنيات المستخدمة أحياناً، واستثمارَ المواد المتاحة بين يديَّ لإنتاجِ عملٍ ما تحفِّز الموضوعَ وطريقة البحث في أحيانٍ أخرى.
• للوحاتك تميّزٌ وغرابةٌ فريدةٌ، إلى ماذا ترمز هذه المخلوقات العجيبة التي نراها في لوحاتك؟
كلُّ عناصر أعمالي هي نتاج مخزونٍ طويلٍ تراكمَ في الذاكرة أو في الوجدان. كبرت معي وعاشت تقلبات حياتي واستقرارها. غابت في بعض الفترات وفي بعض التجارب لتعاود الظهور من جديد في أعمال أخرى وفي أوقاتٍ مختلفةٍ. لا أعتمد غالباً على فكرةٍ واحدةٍ، بقدرِ ما أدعُ الحريةَ لهذه العناصر أن تتناوب الحضورَ والرقصَ على مساحة فراغ العمل، أحاورها وأعيش تقلباتها ومزاجيتها الشخصية، فعلى سبيل المثال:" لطالما رسمت الحصان في أوضاعه الطبيعية ودرست بنيته التشريحية وتوازناته. كنت أقوم بموضعته في أغلب الأحيان كرمزٍ للنبلِ والحرية ورشاقة الحركة وقوةِ توازنها لكن وبعد ولوجنا الأزمة السورية، بات الحصان في وضع سقوط ضمن فراغ العمل يصارع لنيل حريته ولتحرير ذاته من القيود التي تكبله قدرته على التأرجح والالتواء ضمن الفراغ شابهت حالتنا التي عشناها خلال الأعوام الستة الماضية كسوريين، وكان رمزاً للإنسان الذي يصارع أقداره من أجل النهوض بحياته وإعادة خلق قيمه وأحلامه من جديدٍ. فالحصان في سنواتِ الأزمةِ الست كان نحن وكلُّ من يحلم بحلمٍ جميل من أجلِ الاحتفاءِ بالحياة.
في مقابل الحصان ومن نفس المرحلة عملت على رمزٍ مقابلٍ وهو (الضبع). كان يمثّل في فراغ العمل بكل خطوطه وألوانه وتحوير أشكال السلطة التي ظننا أنها أسطورية القوة باستبدادها وبطشها سواء كانت سلطة الدولة أم الدين أم النظام الإجتماعي القائم أو حتى سلطة الأب أو المدرس وغيرها.
عملت على هذين الرمزين ما يقارب الثلاث أعوام كرموزٍ أساسيةٍ في العمل في فترةٍ سياسيةٍ حرجةٍ من جهة وللإبتعاد عن المباشرة في الطرحِ التي قد تفقد العمل الفني قيمته الفنية من ناحيةٍ أخرى. لتأتي عناصر أخرى متمّمة لهذين الرمزين ومنها المدينة التي استمر شكلها بالظهور على هيئةٍ واحدةٍ بالرغم من مرروي بمدن كثيرة خلال السنوات الستة الأخيرة. فتأثري بأجوائها ربما كان ذلك من أجل تأكيد هوية شخصية ذاتية في العمل. تلك المدن التي كانت مزيجاً من العديد من المدن من مثل دمشق السويداء وبيروت. كذلك كان هناك عنصر الشجرةِ والتي اختلط في شكلها أشجار الزيتون والتفاح لتتوحد في مُعطى بصريٍّ واحدٍ. أيضاً وجود عناصرٍ مثل ثنائية المرأة والرجل والسمكة والطير والأبيض والأسود. كما أتى التعامل مع الخط العربي نتيجة عدم قدرة اللوحة أحياناً على أعطائي الكفاية اللازمة للبوح الشخصي فكنت أكتب على لوحاتي لأكمل تفريغ شحنتي النفسية والفكرية في العمل.
• ماهي الرسالة التي تحملها لوحات عمر إبراهيم لهذا العالم؟
قد لا أبغي رسالةً ما على وجه التحديد في العمل ولو حملَته الأعمال بغير وعي مني أحياناً كثيرة. ما تحمله أعمالي غالباً هو حالةُ تعبيرٍ ساكنةً كانت أم متحركةً، رغبة مكتومة أو معلنة لتسجيل صرخةٍ ما. حاجةٌ للولادة والتجدّد مع كل عملٍ جديدٍ وموتٍ وسكونٍ لفترة ما بعد انتهاءه. ما تحمله اللوحة بعمق وبصدق أكثرهو حالةٌ من الوعي الذاتي لفتح نافذةٍ على العالم من حولي لفهمه وتبسيطه. وأكثر ما أرجوه هو أن يحملَ عملي قدرةً على خلقِ لغةِ حوارٍ مع الآخرِ ودعوةً للتأمل بصمتٍ جميلٍ وهادئ أمامَ كل الضوضاء المحيطة بنا.
• هل هنالك نوع معين من الموسيقى يبعث فيك الإلهام؟
لايوجد نوعُ موسيقي على وجه التحديد.بل إن كل نوعٍ موسيقي (إن حمل قدراً كافياً من الجودة الفنية) قادرٌعلى تحريك مشاعر خاصة فيَّ. ولكني أكثر ما أميل اليوم إلى سماعه هو بعض تجارب الموسيقى الصوفية الشرقية المطعّمة بالجاز الغربي حيث تندمج روحين متناقضتين في بوتقة واحدة. كما أحب الكلاسيكيات أيضاً من الموسيقى والتجارب الشبابية المنتشرة في مشرق العالم ومغربه لإعادة إنتاج هوية ثقافية خاصة أمام مشروع عولمة الروح البشرية وتجاهل الخاصيات الثقافية والإنسانية لشعوب العالم.
• ماهي وجبتك المفضلة؟
وجبة بسيطة أحياناً قد تُثير فيَّ الكثيرَ من مشاعر الإمتنان إذما ارتبطت بمخزونِ الذاكرةِ. ولكن إن كان لابد من اختيار طبق ما فسأقول أني أفتقد كثيراً ( المَنسف السوري) الذي كانت تعدَّه جدتي في مدينتي يوماً ما.
• من هو الفنان أو الفنانة المفضل لديك؟
تربطني بفنست فان غوغ علاقةٌ روحيةٌ مميزةٌ لدرجة أني قد أذرف الدموعَ من جديدٍ كلما شاهدت بعضاً من أعماله في المتاحف الأوربية التي أزورها. كما وتربطني بـ أوغست رودان علاقة إجلال وخشوع كلما وقفت أمام أحد أعماله.
لكن إن أردتُ توخي الصدق أكثرَ فسأقول إنها أمي التي كنت أجلس أمام صبرها ساعاتٍ وهي تَحيك لنا الثياب الشتوية واضعةً بها كل الحبِّ والمثابرة التي خَبرتهما في هذا العالم.
• ما هو العمل الفني المفضل لديك؟
لا يوجد عمل واحدٌ مفضلٌ لدي لكن بعض الأعمال تشدُّني إليها أكثر للتأمل والتفكير مثل عمل "الرجل الماشي" للفنان ألبيرتوا جياكوميتي الذي أعاد طرح نفس المشكلة الوجودية التي فكر فيها الكثيرون من قبل ومنهم الفنان بول غوغان الذي قال: "من أين جئنا ولماذا نعيش؟ وأين نذهب؟"
• ماهي أهم خطوة قمت بها في مشوارك الفني والتي تعتبرها بداية لنجاحك؟
استمراري بالعمل في أوقات الحرب كما في أوقات السلم.
• ما هو حلمك الذي لم يتحقق بعد؟
أن أُشرِّفَ عائلتي وبلدي واسمي بما أنا عليه.
• باعتقادك لو لم تكن فناناً، ماهي المهنة التي كنت ستمتهنها؟
بكل صدقٍ ورمانسيةٍ أودُّ لو تمكنت يوماً من رعي الأغنام على سفحِ جبلٍ بعيدٍ في مدينتي الجبلية مع القليل من الطعام والمزيد من العزلة والتأمل.
• ما هو الدور الذي يلعبه الفنان في المجتمع؟ وهل هذا الدور مفعل في مجتمعنا؟
أعتقد من تجربتي الشخصية أن على الفنان أن يلعب دوراً واعياً مع ذاته أولاً، دوراً فعالاً للنضال من أجل العيش ضمن سلم قيم روحية واجتماعية حقيقية على الرغم من تعقيدات الحياة المعاصرة التي لم تجلب غير المزيد من الارتباك إلينا ككائنات اجتماعية. وعلى الرغم من إغفال المجتمع الإنساني عامة لهذه القيم الروحية في الكثير من الأحيان - ولا أعني هنا القيم الدينية بقدر ما هي القيم الروحية الإنسانية من تعاطف ومحبة ومشاركة أكثر.
فمن خلال صدق العلاقة مع الذات التي يجب التدرب عليها بشكل يومي، يتم الفنان دوره الإجتماعي حيث ينقل هذا الوعي الذاتي لوعي جمعي ويؤرخ لتفاصيل معاشة قد يتجاوزها أحيانا العلم كما قد تتجاوزها السياسة وعجلة الإقتصاد التي يعيشها العالم اليوم. ومع ذلك لا أنظر لدور مثالي يعيشه الفنان على أرض الواقع بقدر ما أؤكد على ضرور الصدق حول حركة الوعي الذاتي التي يمر بها الفنان ليصل بشكل صحيح لمجتمعه. ولا أغفل أن الفنان في نهاية المطاف هو صاحب رؤية وطريقة كشف للأشياء والحياة قد يتجاوزها الكثيرون إذ يقع على عاتقه دور إعادة تسليط الضوء عليها.
أما في مجتمعاتنا العربية فإن هذا الدور لم يكرّس بشكل حقيقي خارج إطار البنى السياسية التي حددتها الدكتاتوريات الحاكمة في بلادنا العربية. وبقي كل من يرفض الخضوع للخطوط الحمر التي تضعها السلطة (سياسية أو دينية أو اجتماعية) في بلادنا خارج إطار الحضور الفاعل في مجتمعاتنا أو مهمّش الدور في حرية ما يودُّ تقديمه. الأمر الذي لم يساعد على خلق رابط حقيقي بين الناس وبين الفنانين إلا على نطاقات ضيقة ومحدودة. فاقتصر على بعض رواد دور العرض الفنية أو من مقتني الأعمال الفنية أو من زملاء الفنان وحلقاته الإجتماعية الضيقة التي يعيش معها من كتاب ومثقفين وموسيقيين وغيرعم. ولم يؤسّس لدورٍ حقيقي للفن في الحياة الاجتماعية وأخصُّ بالذكر هنا الفنون البصرية لتكون حاضرةً ومؤثرةً في ثقافة مجتمعاتنا. على الرغم من غنى وأهمية التجربة الفنية التي خاضها فنانونا وبكل جرأة دينكوشوتية في أحيانٍ كثيرة.
• ما هو العائق الأكبر في وجه الفنان برأيك؟
العائق الأساسي هو العائق الإقتصادي حيث يجب التركيز على إمكانية خلق الدعم المادي الضروري لنمو وتطور التجارب الفنية وبالأخص الشابة منها. وأي عائق آخرهو عائق قابل للخوض به لاحقاً إذ ما توفرت هذه المقومات المادية لاستمرار الفعل الفني واستمرار إنتاجه.
• ما هو رأيك بوضع الفن في المجتمع العربي عموماً والسوري خصوصاً؟
على الرغم من كل التحديات والصعوبات التي يواجهها فنانونا إلا أن الفن العربي عموماً والسوري خصوصاً بات حاضراً في العديد من المحافل الدولية. واستطاع تقديم ذاته بقوة وبحضورٍ لافت ٍمن خلال قدرة الفنانين العرب على الاستمرار بتقديم مشاريعهم بكل ما تحمله من بذور إخفاق ونجاح كما كل التجارب الفنية حول العالم.
ما أود التنويه إليه هنا هو التأكيد على الدور الإعلامي الواجب القيام به اتجاه التجارب الفنية وخصوصاً الشابة لتقديم فنوننا وفنانينا لتصل تجاربهم إلى العالم، والتأكيد على الأهمية التي تقوم عليها حركة السوق من خلال رفد هذه المشاريع الإبداعية بمشاريع تسويقية قادرة على حمل التجربة العربية إلى الآخر وتقديمها بأفضل شكلٍ ممكنٍ. الأمر الذي قد يؤدي إذا ما تم تجاهله إلى التقليل من فرص التطور والإنتشار إذا ما أردنا أخذ دورنا حضارياً وثقافياً بين شعوب العالم المتقدمة.
واكبتُ العديدَ من التجارب الهامة في عالمنا العربي عموماً وفي سورية خصوصاً. وشخصياً لا أرى أنها تقلُّ قيمةً وأهميةً من أي تجربةٍ تقدَّم حول العالم اليوم والدليل على ذلك وصولُ العديد من الفنانين وتجاربهم لمرحلة باتوا يشاروكون فيها في مزادات عالمية أو من خلال اقتناء أعمالهم في العديد من المتاحف أو مشاركتهم في محافلٍ دوليةٍ كثيرةٍ.
• ماهي النصيحة التي تقدمها للفنانين والفنانات في بداية مشوارهم في الفن الشكيلي؟
المواظبةُ على العمل والتعلّم والتأمل. كذلك فإن التجريب والبحث بجدٍ قادرٌ على إعطاء نتائج غير متوقعةٍ. وعدم الخوف من هدم ما تعمل عليه وإعادة بنائه مجدداًهو جزءٌ أساسيٌ من قدرةِ وطاقة الفنان المتجددة على التطور. لكن يبقى الأهمُ هو خلقُ القدرة على الاستمرار مهما كانت الصعوبات والجرأة في الطرح والبحث للوصول لنتائجٍ هامةٍ