لوحة العشاء الأخيــر
الفنون البصرية >>>> فن وتراث
تمثل جدارية دافينشي التي رسمت في الفترة بين عامي 1495 و 1498 والمعروفة باسم العشاء الأخير (وهي تحفة من النهضة الإيطالية وإحدى أكثر أعمال الفن المسيحي شهرة) مشهداً من أيام المسيح الأخيرة كما وصف في إنجيل يوحنا 13:21. وكان المسيح قد أعلن لحوارييه الاثني عشر للتو أن أحدهم سيخونه (الحقَّ الحقَّ أقول لكم: إنَّ واحداً منكم سيسلمني!)، وتصوّر اللوحة رد فعل كل حوارييه تجاه الخبر، ورغم أنها تبدو عملاً مباشراً من الفن الإنجيلي، إلا أنها في الواقع عملٌ معقدٌ بشكل استثنائي، تجعله رمزيته الرياضية وتعقيده النفسي وطريقة استخدامه للتركيز الدراميّ أولَ مثالٍ حقيقيٍ لفنون النهضة. تبلغ أبعاد اللوحة 15×29 قدماً، وتحتل جداراً في قاعة الطعام في كنيسة سانتا ماريا ديلي غراسي في ميلانو. بغية منح نفسه فرصة التعديل على اللوحة أثناء رسمها (وهو أمر لم يكن ممكناً في الجداريات الاعتيادية) قام ليوناردو أولاً بتغطية سطح الجدار الحجري ثم رسم عليه باستخدام خليط التيمبيرا والزيوت كما لو كان لوحاً خشبياً، نتيجةً لذلك بدأ العمل يتلف منذ اللحظة التي انتهى فيها تقريباً، ووصفه المؤرخ جيورجيو فاساري بعد سبعين عاماً بالقول: "صنع بشكلٍ سيءٍ للغاية حتى أن كل ما يمكن رؤيته منه الآن هو بقعة زاهية". رغم هذا يعتبر العمل أحد روائع لوحات عصر النهضة.
الحواريون:
عرفت هويات الأشخاص المرسومين من دفاتر ملاحظات ليوناردو دافينشي، وهم مرتبون في أربع مجموعات من ثلاثة أشخاص بحسب ردود أفعالهم كالتالي (من اليسار إلى اليمين):
المجموعة الأولى:
بارثولماوس، ويعقوب الصغير، وأندراوس كلهم متفاجئون.
المجموعة الثانية:
يهوذا الإسخريوطي يتراجع إلى الخلف، وبجواره بطرس يحمل سكيناً ويبدو غاضباً، فيما ينتحب يوحنا أصغر الحواريين ذو الوجه الطفولي.
المجموعة الثالثة:
توما منزعج، ويعقوب مصدوم، وفيليبس يطلب تفسيراً.
المجموعة الرابعة:
يهوذا، تدَّاوس، ومتَّى يلتفتان إلى سمعان القانوي بحثاً عن إجابات.
وباختصارٍ فإن اللوحة تجسد اثني عشر شخصاً تظهر عليهم ملامح الرعب والغضب وعدم التصديق بشكلٍ حيٍ وإنساني وبأسلوب يعاكس تماماً وضع المسيح الهادئ المتصف بالعظمة.
المسيح:
يمثل المسيح القلب النابض بين شخصيات اللوحة كما في كل اللوحات الدينية من هذا النوع، إذ تجتمع في هيئته عدة خصائص معمارية، ويمثل رأسه نقطة تختفي عندها كل خطوط المناظير، مما يجعل العشاء الأخير مثالاً يلخص الخطوط المنظورية التي تميز بها فن عصر النهضة، أما إيماءته الرزينة نحو قربان الخبز والنبيذ المقدس فهي ليست موجهة لحوارييه بل لرهبان وراهبات دير سانتا ماريا ديلي غراسي.
يهوذا:
في معظم الأعمال التي تمثل العشاء الأخير يظهر يهوذا الحواري الوحيد الذي لا يملك هالة قداسة، وأحياناً يجلس منفصلاً وبعيداً عن الآخرين. إلا أن ليوناردو يُجلس الجميع معاً على جهة واحدة من المائدة ليواجهوا الناظر، رغم ذلك يمكنك تمييز يهوذا عن غيره بسهولة، فهو يقبض على كيس صغير يرمز إلى قطع الفضة الثلاثين التي حصل عليها لقاء خيانة المسيح، كما نلاحظ أنه أوقع المملحة وهو رمز آخر للخيانة. ويقع رأس يهوذا في موضع أخفض من كل الآخرين، كما أنه الشخص الوحيد الذي يجلس في الظل.
التواصل:
استخدم دافينشي تقنيات جديدة لإيصال أفكاره للناظر، فبدلاً من الاعتماد على التقاليد الفنية حصراً رسم أشخاصاً عاديين كان يلتقيهم في الطريق. كما استعمل لغة الإشارة التي يستعين بها المتحدثون في العلن. ومما يلفت النظر أن الفنان رافاييل رسم ليوناردو دافينشي في لوحة مدرسة أثينا عام 1511 يقوم برفع سبابته بطريقة مطابقة لرسم دافنشي نفسه للقديس توما في العشاء الأخير.
الرمزية الرياضية:
تحتوي اللوحة عدداً من التلميحات للرقم 3 في إشارة ربما إلى الثالوث المقدس. الحواريون يجلسون في مجموعات من ثلاثة أشخاص، وتوجد ثلاث نوافذ، كما تشكل هيئة المسيح نفسه مثلثاً يحدده الرأس والذراعان الممددتان.
الطبيعة الصامتة:
على المائدة يرى الناظر التطريز على غطاء الطاولة وكؤوس النبيذ الشفافة وأطباق القصدير وقناني الماء بجانب الطبق الرئيسي (البط بصلصة البرتقال). كل هذه التفاصيل كانت بداية فن الطبيعة الصامتة الذي أتمه رسامو المدرسة الواقعية الألمان في القرن السابع عشر.
فنان عصر النهضة:
دقة دافينشي العالية في العشاء الأخير بجانب مهاراته كرسام وعالم ومخترع وتركيزه على كرامة الإنسان أعطوه سمعة كفنان مثقف ومفكر مبدع أكثر من كونه مجرد رسام مبهرج يُدفع له ليلون الكثير من الياردات المربعة يومياً، وفكرة كرامة الفنان هذه بالإضافة إلى أولوية التصميم عن الألوان طورها مايكل انجلو وغيره عند تأسيس أكاديميتي الفن في فلورنسا وروما.
شيفرة دافينشي:
شكلت لوحة العشاء الأخير موضوعاً لعدد كبير من نظريات المؤامرة والنظريات السرية كتلك الواردة في رواية شيفرة دافينشي لدان براون (2003) أو كتاب كشف سر فرسان الهيكل للين بيكنيت وكليف برينس (1997)، وتشهد على ذلك الدعاوى القضائية المستمرة ضد هذه التحفة الفنية. وغالباً ما تدَّعي النظريات أن أحد الحواري يوحنا هو مريم المجدلية مغفلةً حقيقة أن لوحةً تخص المسيح وحوارييه الاثني عشر لا يمكن أن تستثني أحداً منهم دون تفسير مقنع. أما مظهر يوحنا الناعم فلم يكن أمراً غير معتاداً نظراً لصغر سنه، وفي لوحات العشاء الأخير لأندريا ديل كاستانغو (1447) والعشاء الأخير لدومينيكو غيرلاندايو (1480) رُسم يوحنا بشكلٍ أنثويٍ مع شعر طويل ناعم، وكان شائعاً في ذلك العصر رسم حديثي الإيمان بمظاهر أنثوية، ويمكن القول باختصار أن معظم تلك التخمينات الشعبية غير مؤكدة بدراسات علمية.
المصادر:
هنا
هنا;