أجاثا كريستي في الشرق الأوسط: 2- نتائج الحب على حياة الكاتبة البريطانية
التاريخ وعلم الآثار >>>> تحقيقات ووقائع تاريخية
في زيارتها الثانية إلى المدينة السومرية القديمة، التقت كريستي للمرة الأولى بماكس مالوان وقد كان مساعد ليونارد وولي، وكانت تكبره بثلاثة عشر عاماً،وتعرف الاثنان إلى بعضهما على مدارالموسم ووقعا في الحب وخلال 6 أشهر أصبح عالم الآثار زوجها الثاني.
ومنذ ذلك الوقت وإذا تركنا جانباً فترة التوقف بسبب الحرب العالمية، فقد قضت أجاثا كريستي مواسماً طويلة في مواقع تنقيب متعددة في سوريا والعراق، مرافقة بعثات زوجها. وقد عملت في استرجاع قطع الأواني الفخارية، وجرد المكتشفات، وتصوير الآثار. إن الرحلات الطويلة والمرهقة وصرامة الحياة في التنقيب لم تشكل عائقاً أمام مواصلتها الكتابة، بل أغنت حبكتها في عالم الجريمة، وفي الوقت الذي كان فيه زوجها يعمل في موقع تل الأربجية - قرب نينوى (تقع الآن في محافظة الموصل في العراق) وهي مستوطنة من العصر الحجري الحديث يعود تاريخها إلى الألفية السادسة قبل الميلاد– سكنت أجاثا في فندق بارون بحلب وكتبت روايتها الشهيرة "جريمة في قطار الشرق السريع" في عام 1934 م وقد أهدتها لزوجها مالوان والتي استلهمتها من رحلاتها المتعددة التي قامت بها على متن ذلك القطار.
خلال الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي واصل مالوان صعوده، خرج من ظل وولي ليصبح مدير حملة تنقيب بنفسه، فيما انفجرت مسيرة كريستي في الكتابة حيث نشرت وبغزارة الرواية تلو الأخرى، وقد تلونت العديد من أعمالها في تلك الفترة – مثل جريمة في بلاد ما بين النهرين (1936م) وجريمة على ضفاف النيل (1937م) – بخبرتها الجديدة مع مالوان وعلم الآثار.
وبعد تل الأربجية تابع مالوان مسيرته ليقود حملة تنقيب في سوريا والتي تضمنت موقع شاغربازار (في محافظة الحسكة) وهي مستوطنة تعود لبدايات العصر البرونزي حيث اكتشف فيها أعداد كبيرة من الألواح المسمارية، وموقع آخر في تل براك (يقع أيضاً في محافظة الحسكة) والتي كانت يوماً ما مدينة مزدهرة في شمال ما بين النهرين حوالي القرن الثالث قبل الميلاد، وقد روت أجاثا كريستي في مذكراتها "تعال وأخبرني كيف تعيش Come and tell me how do you live “ تجربتها في سوريا مع زوجها عالم الآثار ماكس مالوان، وقد قامت بإضافة روح الفكاهة على الرواية لوصف العدد الكبير من الصعوبات التي عانوا منها خلال الحملة.
حلم نمرود
تستعيد كريستي ذكرياتها ففي بداية عام 1932م حين أخذها مالوان لرؤية مدينة نمرود، وقد اعترف لها بأنه كان يتوق لأن ينقب في هذا الموقع أكثر من أي مكان آخر على سطح الأرض، لقد شعر بأن هذا المكان بمثل أهمية أور وهناك احتمالية كبيرة أن يكون غنياً كقبر توت عنخ آمون في مصر. وبعد خدمته في القوات الجوية الملكية البريطانية في شمال أفريقيا خلال الحرب العالمية الثانية تحول الحلم إلى حقيقة.
فقد عين مديراً أول للمدرسة البريطانية للآثار في العراق، واستطاع تأمين الدعم اللازم لعمليات التنقيب من متحف الميتروبوليتان للفنون في نيويورك.
وخلال الخمسينات من القرن الماضي أصبحت نمرود البيت الثاني لكريستي، والتي كان لديها حتى ذلك الحين حوالي 45 رواية باسمها، وقد خصصت لها جانباً حجرة صغيرة للكتابة، حيث استمر نتاجها الأدبي بلا انقطاع. وعلقت على باب الحجرة إشارة صغيرة كتب عليها باللغة المسمارية (منزل أجاثا). وكان مالوان مسؤولاً عن الحفريات العميقة للكشف على قصور آشورناسيربال العظيمة وورثته، وهو أحد أعظم مشاريع الكشف عن الآثار في تاريخ بلاد ما بين النهرين.
Image: IGNACIO MARQUEZ ROWE، AGATHA CHRISTIE IN MESOPOTAMIA، NATIONAL GEOGRAPHIC HISTORY.
الشكل (1): رسم تخيلي لغرفة أجاثا كريستي في نمرود
وقد أثبتت نمرود بأنها مصدر غني جداً للمقتنيات الأثرية، مقارنة مع تلك التي وجدها ليونارد وولي في أور. من بين العديد من المكتشفات المدهشة، كان هناك مجموعة رائعة مؤلفة من آلاف القطع العاجية والمصنوعة بجودة فنية قل نظيرها، إن هذه المنحوتات الرائعة تعود إلى ما بين القرنين التاسع والسابع قبل الميلاد، وبعد أن تم اقتفاء أثرها وجد أنها صنعت في مشاغل تمتد من شمال ما بين النهرين إلى ساحل فينيقيا (لبنان اليوم).
إن بعض هذه الكنوز قد تم إرساله كجزية من قبل أمراء الممالك التي وقعت تحت الاحتلال الآشوري، والبعض الآخر منها قد تم الاستيلاء عليه وحملت كغنائم حرب إلى العاصمة الآشورية بعد الحملات العسكرية الآشورية. لقد تمت تغطية المنحوتات العاجية في الأصل بالحجارة شبه الثمينة وأوراق الذهب والتي أبرزت جمال المشاهد التصويرية، والتصميمات النباتية والهندسية. تم استخدام هذه المنحوتات في أيام الآشوريين لتزيين الأثاث، والأوعية، وضفائر الخيل، والعربات الملكية. ومازالت حتى اليوم تثير إعجاب الكثيرين في المتحف البريطاني في لندن وفي العديد من المؤسسات الأخرى حول العالم، فبعد حملة مالوان للتنقيب، فإن العديد من القطع كانت جاهزة لرحلة أخرى طويلة، حيث تم إرسال جزء رئيسي منها إلى المملكة المتحدة عام 1963 م وتم حفظها كجزء من مجموعة المدرسة البريطانية للآثار في العراق (وهو الآن المعهد البريطاني للدراسة في العراق) وهي الهيئة التي رعت حملة مالوان، وفي سنة 2011م تم تقديم ثلثي العاجيات إلى المتحف البريطاني كتبرع. والباقي ما زال في عهدة المعهد على أمل أن يتم إعادتها إلى العراق في يوم من الأيام. حيث أن عاجيات نمرود كانت مسبقاً من ضمن المجموعات العراقية التي نهبت بعد حرب الخليج عام 1991م وخلال الحرب العراقية عام 2003م، حيث سرقت حوالي 15000 قطعة من كنوز آثار العراق، وهو المصير الذي نجت منه موناليزا نمرود، كما إن موقع نمرود نفسه قد تم تخريبه في السنوات الماضية، حين قامت الدولة الإسلامية بتهديم الزقورات وتدمير آثار القصر، وهي خسارة نعاها العالم بأكمله.
بعد استعادة هذه المكتشفات غالباً ما ساعدت كريستي في تنظيفها وتوثيقها، وهي العملية التي وصفتها في ذكرياتها: "لقد كان لي دوري في تنظيف العديد منهم، وكانت لدي أدواتي المفضلة كأي محترف آخر وهي عبارة عن: عصاة صغيرة برتقالية اللون، إبرة خياطة رفيعة جداً، ووعاء مملوء بكريم الوجه المستعمل في مساحيق التجميل، والذي وجدته مفيداً أكثر من أي شيء آخر لتنظيف الأوساخ الموجودة في الشقوق الصغيرة بلطف دون إيذاء العاج الهش".
في المجمل فقد قضى الثنائي 10 سنوات من العمل في نمرود قبل التقاعد في عام 1958م. وبالعودة إلى الوراء تصف كريستي نجاح مالوان هناك بقولها: "هذا عمل حياته، وهو ما كان يسير نحوه بثبات منذ عام 1921م، لقد بدا أشبه بالمعجزة أن كلانا أنا وهو قد نجحنا في العمل الذي أردناه".
المصدر:
IGNACIO MARQUEZ ROWE، AGATHA CHRISTIE IN MESOPOTAMIA، NATIONAL GEOGRAPHIC HISTORY، ISSUE: MAY / JUNE 2017، P30- 41