النّظريّة الّتي نسفت كلّ قواعدِ الفيزياءِ التّقليديّة
الفيزياء والفلك >>>> فيزياء
هُنالكَ قوانينُ فيزيائيّةٌ أساسيّةٌ تَعملُ مِن حولِنا ونُدرِكُها بالحدسِ؛ فالجاذبيّةُ تجعلُ الأشياءَ تسقطُ نحو الأرضِ، ودفعُ شيءٍ يجعلهُ يتحرّك، ولا يُمكنُ لشيئينِ أن يكونا في نفسِ المكانِ في اللحظة ذاتها.
ظنَّ العلماءُ في الماضي أنّ كُلّ هذهِ القوانينِ الأساسيّةِ تنطبقُ على كلِّ شيءٍ في الطّبيعةِ، لكنّهم عندما بدؤوا بدراسةِ الأشياءِ المتناهيةِ في الصِّغر؛ كالذّرّات والإلكتروناتِ وأمواج الضّوء، وجدوا أنّها لا تخضع لتلك القوانين. بدأ الفيزيائيّون ومن ضمنهم نيلز بور "Niels Bohr" وآلبرت أينشتاين "Albert Einstein" بدراسةِ هذهِ الجسيمات، وأسَّسوا لقوانينَ فيزيائيةٍ جديدةٍ مختلفةٍ تماماً عن القوانينِ المُتعارفِ عليها. كانت تلكَ هي قوانينُ ميكانيك الكم، و استندوا في أبحاثهم على أعمالِ الفيزيائيّ ماكس بلانك "Max Planck".
مَدعاةٌ لليأس!
في العام 1900 كانَ ماكس بلانك في برلين يدرسُ ما يُدعى: الكارثةَ فوقَ البنفسجيّة "Ultraviolet Catastrophe". كانتِ المشكلةُ أنَّ القوانينَ الفيزيائيّةَ تتنبّأ بأنّك إذا سخّنتَ جِسماً بحيثُ لا يُمكنُ للضّوءِ الخروجُ مِنه (وهو ما يُعرفُ بالجِسم الأسود Blackbody)، فإنّه سيُنتجُ كمّيةً لا نهاية لها من الإشعاعاتِ فوق البنفسجيّةِ. لكنّ ذلك لم يحدُث على أرضِ الواقع، فقد كان الجِسمُ يُشِعّ بألوانٍ مختلفةٍ؛ أحمر، أزرق أبيض، تماماً مثل إشعاعاتِ المَعادنِ المَصهورة، لكنْ لم يكُن هنالكَ أيّّةُ كميّةٍ لا نهاية لها مِن أيّ شيء، ولم يكن ذلك منطقيّاً إطلاقاً! كانت قوانينُ الفيزياء تصفُ بدقّةٍ كيفيّةَ عملِ الضّوءِ خارجَ هذا الجسم، فلماذا لم تتمكّن تلك القوانينُ من وصفِ سيناريو الجِسمِ الأسودِ بدقّة؟
جرّب بلانك حيلةً رياضيّةً، افترضَ أنّ الضّوءَ لم يكُن موجةً متّصلةً كما اعتقدَ الجميع، بل يُمكنهُ - ربّما - أن يوجد فقط بكميّةٍ محدّدة؛ أو بكمّاتٍ من الطّاقة. لم يعتقدِ بلانك أنَّ هذا صحيحٌ بالنّسبةِ للضّوء، وأشارَ لهذه الحيلةِ الرّياضيّة بأنّها مَدعاةٌ لليأسْ "An act of desperation". لكن بهذا التّعديل من قِبَل بلانك، استطاعت المعادلاتُ وصف إشعاعاتِ الجسمِ الأسودِ بدقّة.
لم يتقبّلِ الجميعُ ما تَوصّل إليه بلانك في البدايةِ، لكنّ آلبرت أينشتاين فسّرَ معادلةَ بلانك على النّحو الآتي: "يُمكنُ اعتبارُ الضّوءِ كجُسيماتٍ منفصلةٍ، تماماً مثلَ الإلكتروناتِ أو البروتونات". وفي عام 1926، أطلقَ الفيزيائيّ جيلبرت لويس "Gilbert Lewis" اسم الفوتونات على هذهِ الجُسيمات.
الكمّ في كلِّ مكان!
انتقلت فكرةُ إمكانيّةِ احتواءِ الجزيئاتِ على كمّات من الطّاقة في أحجامٍ معينةٍ، إلى مجالاتٍ أُخرى في عالم الفيزياء. في العقد التّالي، استخدم نيلز بور هذا الوصفَ للجزيئاتِ في شرحهِ لكيفيّة عمل الذرّة. قال إنّ الإلكتروناتِ الّتي تدور حولَ النّواةِ، لا يُمكِنُ أن تمتلكَ مقداراً صغيراً أو كبيراً عشوائيّاً من الطّاقة، بل يمكنها فقط أن تمتلك كمّاتٍ محدّدةٍ من الطّاقة.
أدرك العلماءُ في النّهايةِ أنَّ هذا يُفسرُ طبيعةَ بعضِ الموادّ بأنّها ناقلاتٌ كهرُبائيّةٌ وبعضُها ليس كذلك، إذ أنّ الذّرّاتِ ذاتِ المداراتِ الإلكترونيّةِ مُختلفةِ الطّاقة تنقلُ الكهرُباءَ بطريقةٍ مُختلفة. سهّلَ هذا المفهومُ اختراعَ "الترانزستور"؛ لأنّ بنيتهُ مصنوعةٌ منْ مزيجٍ منَ الموادِّ المتفاوتة في النّاقليّةِ الكهرُبائية.
لكِنّها أموجٌ أيضاً!
من الأشياءِ الغريبةِ في ميكانيكِ الكمّ، أنّه باعتبارِ أنّ الإلكترونَ أو الفوتونَ جسيم، فهذا لا يعني أنّهما لا يُصَنّفانِ كأمَوجٍ أيضاً. يتصرّف الضّوء في العديدِ من التّجاربِ بشكلٍ أشبَهَ للموجةِ منهُ إلى الجُسيم.
تُسبّبُ هذهِ الطبيعةُ الموجيّة بعضاً من التّأثيرات الغريبة. فعلى سبيل المثال؛ إذا كان الإلكترونُ المداريُّ حولَ نواةِ الذّرةِ يتصرّفُ كمَوجةٍ، يصبحُ موقعهُ غيرَ واضحٍ في أيّ لحظةٍ محدّدة، وبدلاً من وجودهٍ في موقعٍ محدّدٍ، ينتشرُ في الفضاء. هذا الانتشار يعني أنَّه لا يمكنُ للإلكتروناتِ أن تتحرّك دوماً بنفس الطّريقة الّتي نتوقّعها، وبعكسِ طبيعةِ الماءَ المتدفّق في اتّجاهٍ واحدٍ داخلَ خُرطوم، يُمكنُ للإلكتروناتِ الّتي تتحرّك كتيّارٍ كهربائيّ أن تسلكَ طُرقاً غيرَ مُتوقّعةٍ أحياناً، تحديداً عندما تتحرّك بالقُربِ من سطحِ المادّةِ. علاوةً على ذلك، يُمكنُ للإلكتروناتِ الّتي تتصرّفُ كموجة أن تخترقَ أيّ حاجزٍ أمامها في بعض الأحيان. كان فهمُ هذا التّصرّفِ غيرِ الاعتياديّ للإلكتروناتِ ضروريّاً للعُلماءِ الّذين حاولوا التّحكّم بكيفيّة سيرِ التّيار في صناعة أوّل ترانزستور.
جُسيمٌ أم موجَة؟
فسّرَ العلماءُ ميكانيكَ الكمّ على أنه يمكن لجُزء صغيرٍ منَ المادّةِ كالفوتونِ أو الإلكترونِ أن يكون الاثنين معاً! جسيمٌ وموجةٌ، أو أن يكون أحدهما، وهذا يعتمدُ على نوع التّجربةِ الّتي نجريها. التّوصيفُ الأكثرُ دقةً هو أنّ الفوتونَ - أو الإلكترونَ - ليس موجةً ولا جسيماً، ولا تتحدّدُ طبيعتهُ إلى حينِ إجراء التّجرُبةِ عليه، وعندها نخضعهُ ليكونَ إمّا موجةً أو جسيماً.
اعتبارُنا أنّ نوعيّةَ الجسيماتِ غيرَ مصنّفةٍ بدقّةٍ له تبِعاتٌ جانبيّةُ، فمثلاً هنالكَ مبدأ لهايزنبرغ يُسمّى: مبدأ عدم اليقين "Uncertainty Principle"، وينُصّ على أنّهُ إذا أرادَ الباحثُ تحديدَ سرعةِ جسيمٍ وموقعهِ فلا يمكنهُ تحديدُ الاثنينِ معاً بدقّة؛ فإذا قاسَ السُّرعةََ بدقّةٍ فلا يُمكنهُ أن يحدّد الموقعَ بدقّة أيضاً، ليس لأنّه لا يملك أدواتٍ دقيقةٍ للقياسِ، فالأمرُ أعمقُ من ذلك. إذا كانت السّرعةُ محددةً فلا وجودَ لموقعٍ محدّدٍ بدقّةٍ لأنّ الإلكترونَ ينتشرُ كموجةٍ، والعكس صحيح.
لم تُعجب هذه الفكرةُ آلبرت أينشتاين، لأنها - برأيه - تصادمت مع حتميّة قوانينِ الفيزياء، وحينها قال جملته الشّهيرة "الإله لا يلعبُ النّرد مع الكون"، ومع ذلك يتقبّل أغلبُ علماءِ الفيزياءِ الحاليين قوانينَ ميكانيكِ الكمّ كتوصيفٍ دقيقٍ للعالمِ دونَ الذّريِّ.
هامش
الجسمُ الأسود: هو الجسمُ الّذي يمتصُّ كلّ ما يسقطُ عليه من ضوءٍ، دون أن يعكس منه شيئاً.
المصدر:
هنا