كيف نقيس المسافات بين الأجرام السماوية؟
الفيزياء والفلك >>>> علم الفلك
تُقاسُ المسافة في الفضاءِ بواحدةِ السّنةِ الضّوئيّةِ؛ وهي تساوي 9،460،730،472،580،800 متر ( أو 9.46 تريليون كيلومتر تقريباً ) وهي المسافةُ التي يقطعُها الضّوءُ في سنةٍ كاملةٍ بسرعتهِ البالغةُ 300000 كيلومتر في الثّانية، وبهذه السّرعةُ فهو يحتاجُ إلى 134 جزءٍ من ألفٍ من الثّانيةِ فقط ليدورَ حولَ الأرضِ وفقَ خطّ الاستواء.
نستنتجُ من هذه اللمحةِ السّريعةِ أنَ أياً من وسائلِ قياسِ المسافاتِ المُستخدمةِ على سطحِ الأرضِ ستفشلُ تماماً في الفضاء، لذا نختارُ طريقةً بين عدّةِ طُرقٍ مناسبةٍ لقياسِ المسافات في الفضاء وفقاً لبعدِ الجسمِ المرادِ قياسُه. هذه الطرق هي:
1- الرادار "Radar":
وهي طريقةٌ حديثةٌ تعتمدُ على السّرعةِ الثّابتةِ للضّوءٍ (و أيةُ موجةٍ كهرومغناطيسيّةٍ) في الفراغِ والتي تُقدّرُ بـ 300000 كيلومتر في الثّانية، واعتماداً على هذهِ الحقيقةِ يمكنُنا حسابُ المسافاتِ ضمنَ نظامنا الشّمسيّ اعتماداً على قانونٍ بسيطٍ هو: المسافةَ المقطوعةَ تساوي السّرعةُ مضروبةٌ بالوقتِ اللازمِ لقطع هذه المسافة.
وقد استُخدِمت هذه الطّريقةُ لقياسِ بُعدِ كلّ كوكبٍ من كواكبِ المجموعةِ الشّمسيّةِ عدا الكوكب القزم بلوتو. (لِمَ لا يستطيع المقراب هابل التقاط صور واضحة لبلوتو هنا)
وكذلك استُخدمت لقياسِ بعدِ القمرِ عن الأرضِ بدقّةٍ؛ حيث تَركت بعثةُ أبّولو مرايا على سطحِ القمرِ قامت بعكسِ شعاعٍ من الليزر المُسلّط عليها من الأرض، وقد أتاحَ ذلك للعلماءِ إلقاءَ نظرةٍ عن كثبٍ على مدارِ القمر.
2- اختلاف المنظر "parallax":
تُستخدُم هذه الطريقةُ لقياسِ بُعدِ النّجومِ ضِمنَ مجالٍ قدرُه 100 سنةٍ ضوئيّةٍ، وهي تقنيّةٌ بسيطةٌ ويُمكنُ ملاحظتُها بشكلٍ شخصيّ؛ قُم بتثبيتِ إصبعك على أنفك وقُم بإغلاقِ إحدى عينيك وانظر إلى أصبِعك بالعينِ الأخرى، ثمّ حدّد موقِع إصبعك باستخدام جسمٍ آخرَ بعيدٍ ( مثلَ نافذةٍ أو حائط...)، والآن انظر إلى إصبعك بعينكَ الأُخرى. ماذا تُلاحظ؟؟
هذه التجربةُ توضّحُ ظاهرةَ اختلافِ المنظرِ؛ وهي الانحرافُ الظّاهريّ لموقعِ جسمٍ قريبٍ بالنّسبةِ لأجسامٍ بعيدةٍ عندَ النّظرِ إليه من موقعِ نظرٍ مختلفٍ.
بما أنّ الأرضَ تدورُ حولَ الشّمسِ في مدارها فهي تسمحُ لنا بإلقاءِ نظرةٍ على النّجومِ القريبةِ نسبياً بِموقعينِ مختلفينِ؛ تماماً كعينيك، وهذا ما ندعوهُ باختلاف المنظرِ النجميّ (stellar parallax)
وبمعرفة حجمِ مدارِ الأرضِ حولَ الشّمسِ وحسابِ الزّاويةِ بين جهة ورودِ الضّوء من النّجم في نُقطتينِ من المدارِ حولَ الشّمسِ يُمكن حسابُ بُعدِ النّجم.
Image: starchild.gsfc.nasa
كلّما كان النّجمُ بعيداً أكثرَ كلّما أصبحتِ الزّوايا المُقاسةُ أصغر، وعندَ بُعدٍ يساوي 100 سنة ضوئيّةٍ تقريباً نفشلُ في رصدِ أيّ انحرافٍ ظاهريّ للنجمِ، ونفشلُ بالتّالي في حسابِ بُعدِ النّجم.
3- السيفِدس "cepheids" :
تُستخدمُ لقياسِ المسافاتِ في حدودِ بضعةِ عشراتٍ من ملايينِ السّنينِ الضّوئية. السفِيدس هي نجومٌ متغيّرةُ السّطوع؛ كما أنّها تَسطَعُ وتخبو بشكلٍ دوريّ، وهي منتشرةٌ بنسبةٍ جيدةٍ في الفضاء ويستطيعُ علماءُ الفلكُ التّعرّفُ عليها في مجرّتنا والمجرّات القريبةِ منّا.
في عام 1912 لاحظت " Henrietta Swan Leavitt" أنّ خمسةً وعشرينَ نجماً تقعُ ضِمنَ سحابةِ ماجلّان تسطُعُ وتخفُتُ بشكلٍ دوريٍّ، وقامت برصدِها ودراستِها. وجدت أنّ دورَها منتظم ( الدّور: هو الزّمن اللازمُ لتسطعَ وتخفُتَ ثمّ تسطعُ من جديدٍ) ولا يتغيرُ بمرورِ الزّمن، كذلك وجدت أن هنالك علاقةٌ ثابتةٌ تربِطُ بين دورِ كلّ نجم ومقدارِ سطوعهِ؛ فلكلِّ دورٍ مقدارُ سطوعٍ خاصٍّ به.
وبالاعتماد على ما توصّلت إليه "Leavitt" نستطيعُ حساب سطوعِ نجمٍ على بُعدِ سنةٍ ضوئيّةٍ واحدةٍ منهُ عن طريقِ حسابِ دوره، وبالاعتمادِ على أنّ الإضاءةَ تتناسبُ عكساً مع مربّعِ المسافةِ التي يقطعُها الضّوء والمقارنةِ بين القيمةِ المحسوبةِ والقيمةِ المُقاسةِ نستطيعُ حسابَ بعد النّجم.
باستخدام التلسكوباتِ الأرضيّةِ نستطيعُ قياسَ البُعدِ حتى 13 مليون سنةٍ ضوئيّةٍ، أمّا من أجلِ أبعادٍ أكبرَ من ذلك تصبحُ هذه النجوم خافتةٌ ولا نستطيعُ ملاحظتها. باستخدامِ تلسكوباتٍ فضائيّةٍ كتلسكوبٍ "Hubble" وبفضلِ نجومِ سيفِدس قِيسَ مؤخّراً بُعدُ المجرّةِ M100 التي تقعُ في عنقودِ العذراءِ، والتي تبعدُ 56 مليونَ سنةٍ ضوئيّة.
4- المستعرُ الأعظم "supernova" :
يُستعمل في قياسِ المسافاتِ في مجال قدرُهُ مليارِ سنةٍ ضوئية. تفشلُ جميعُ الطّرُقِ السّابقةِ تماماً عند هذه المسافةِ، لذلكَ انتقلَ علماءُ الفلكِ إلى استخدامِ طريقةِ "الشّموعِ المعياريّة"؛ وهي السّطوعُ المُطلقُ لأجسامٍ فلكيّةٌ يُفترضُ بأنّه معروفٌ بشكلٍ جيّدٍ، ثمّ قياسُ السّطوعِ النّسبيّ للجِسم ومقارنتهِ مع سطوعهِ المُطلقِ المفترض وباستخدام علاقةِ التناسبِ العكسيّ مع مربّعِ البُعدِ يمكُنُ قياسُ بُعدِ الجسمِ. يبرزُ هنا دورُ المستعِرِ الأعظم؛ وهو الانفجارُ الهائلُ النّاتجُ عن نفادِ وقودِ النّجومِ العِملاقةِ وانتهاءِ حياتها، والذي يخلّفُ سطوعاً هائلاً يُمكّننا من حساب بُعدِ الأجسامِ التي لا يُمكنُ حسابها بأيةٍ من الطّرقِ السابقة.
رُصدت الكثيرُ من المستعراتِ القريبةِ من الأرضِ وحُدّدت خواصّها وقيسَ بعدُها بإحدى الطّرقِ السّابقة، ثمّ حُدّدت الطريقةُ التي تسطُعُ بها ومن ثمّ تخفٌتٌ تماماً، ثمّ حُدّدَ نمطٌ من المستعراتِ يُسمّى"1a" ليكونَ شمعةً معياريةً لكونِ سطوعهِ وخبوّه مُنتظمٌ جدّاً، وقد حُسِبت إضاءةُ هذا المستعرِ العُظمى على بعدِ سنةٍ ضوئيّةٍ واحدةٍ لنجدَ أنّه ثابت تقريباً لكلّ المستعرات من النّمط"1a"
فإذا أردنا حسابُ بُعدِ مجرّةٍ بعيدةٍ جداً عن الأرض، نقومُ بتحديدِ مستعرٍ أعظمٍ من النّمط"1a" ينتمي إلى هذه المجرّة، ثمّ نقومُ بقياسِ إضاءتهِ على سطحِ الأرضِ ومقارنتها مع القيمةِ العظمى المحسوبةِ والثّابتة لإضاءته،
وبالاعتمادِ على أنّ الإضاءةَ تتناسبُ عكساً مع مربّعِ المسافةِ التي يقطعُها الضّوءُ يمكنُ تحديدِ بعد المجرّة.
وتعدّ هذهِ الطّريقةُ مفيدةٌ جدّاً لأنّ المستعرات العُظمى ساطعةٌ جدّاً، وبذلك يمكنُ استخدامُها لتحديدِ أبعادٍ كبيرةٍ جدّاً تصلُ إلى قُرابةِ مليارِ سنةٍ ضوئيّة. (معلومات إضافية عن المستعر الأعظم 1a هنا)
5- قانون هابل والانحراف نحو الأحمر"Hubble's law and red shift" :
جميعُ طُرُقِ الحسابِ المباشرِ السّابقةِ تفشلُ من أجل أجسام أبعدَ من مليارِ سنةٍ ضوئيّةٍ، ولذلك اعتُمِدت طريقةٌ نظريّةٌ مرتكزةٌ على اكتشاف"Edwin Hubble" لتمدّدِ الكونِ عام 1929، حيثُ لاحظ أنّ المجرّاتِ تتحرّكُ مبتعدةً عن بعضها البعض، ولوحظَ ذلك على شكلِ انحرافٍ نحو اللون الأحمرِ في طيفِ تلك المجرّات. كذلك لاحظ أنّهُ كلّما كانت المجرّةُ أبعدَ عن الأرضِ تحرّكت مبتعدةً عنها بشكلٍ أسرع، وقد عبّر عن سُرعة المجرّة بقانونٍ خطي:
v=H×d
حيث v: شعاعُ سرعةِ المجرّة. d: بعدُ المجرّة عن الأرض.H: ثابتُ التّناسبِ ويُدعى ثابت هابل.
قيمةُ ثابتِ هَبل غيرُ محدّدةٍ تماماً، لكنه يقعُ بشكلٍ تقريبيٍّ بحدود 65 كيلو متر في الثانية لكلّ مليونِ فرسخٍ فلكي ("Megaparsec"1 فرسخ فلكي = مليون سنة ضوئيّة). لذا فإنّ مجرةً تبعدُ عنّا فرسخاً فلكيّاً واحداً تتحرّكُ مبتعدةً بسرعةٍ قدرُها 65 كيلومتر في الثانية، أي أنّ ثابت هَبل يعكِسُ مقدارَ تمدّد الكون.
إذاً لمعرفة بعدِ جسمٍ ما فنحن بحاجةٍ لمعرفةِ سرعته فقط، والسّرعة بدورها يُمكنُ حسابُها بفضلِ انحراف دوبلر(أي ازدياد طول موجة الجسم المبتعد وانحرافها نحو اللون الأحمر)؛ إذ يُمكنُ من خلالِ طيفِ الجُرمِ البعيدِ المرادِ قياسِ بُعدهِ - وليكن مجرّةً مثلاً - يستطيعُ علماءُ الفلك ملاحظةَ الانحرافِ في خطوطِ الطّيف وبالتّالي تحديدُ السّرعةِ التي تبتعدُ بها المجرّةُ، ثمّ حسابُ بعدها وفق قانون هابل.
لكن إذا كانَ قانون هابل غير صحيح فإنّ كلّ الحساباتِ السّابقةِ خاطئةٌ، ومع ذلك فإنّ مُعظّم العلماءِ يعتقدونَ أنّ القانونَ ينطبقُ على مجالٍ واسعٍ من المسافاتِ في الكون.
تجدرُ الإشارةُ إلى أنّ نظريّة آينشتاين تتّوقُع الانحرافَ عن القيمةِ الخطّيّةِ لقانونِ هابل في حالة المقاييسِ الكبيرةِ، ومقدارُ هذا الانحرافِ وشكله يعتمدُ على كميّةِ المادّة في الكون، وعن طريقِ الرّسمِ البيانيّ للانحرافِ نحو اللونِ الأحمرِ يتشكّلُ خطٌّ مستقيمٌ في حالةِ المسافات الصّغيرةِ، ويمكنُ أن يطلِعنا هذا الرّسمُ على كميّةِ المادّةِ في الكونِ، ويمكنُ أن يزوّدنا بمعلوماتٍ حاسمةٍ عن المادّةِ المظلمة الغامضة.
المصدر:
هنا