تفقد لسانك بحثاً عن حاستك الذوقية السادسة
البيولوجيا والتطوّر >>>> بيولوجي
يمكنُ أن تُساعدَ هذه النتيجةُ في تفسيرِ إمكانيّةِ تمييزِ المياهِ عن السّوائلِ الأخرى عند الحيوانات، وتضيفَ حجراً جديداً إلى نقاشٍ دامَ لقرون: هل للمياهِ طعمٌ خاصٌّ بها؟ أم أنّها مجرّدُ وسيلةٍ للإحساسِ بنكهاتٍ أخرى؟
ادّعى الفلاسفةُ منذُ العصورِ القديمةِ بأن لا نكهةَ للمياه. فمثلاً أشار أرسطو منذ حوالي 330 عامٍ قبل الميلادِ بأن "لا طعمَ للمياه". تقول باتريشيا دي لورينزو "Patricia Di Lorenzo" من ناحيةٍ أخرى؛ وهي عالمةُ الأعصابِ السّلوكيّةِ في جامعةِ ولاية نيويورك في بينغهامتون: "إنّ لدى الحشراتِ والبرمائيّاتِ خلايا عصبيّةٍ تعملُ على استشعارِ المياه، وهنالك أدلّةٌ متزايدةٌ على وجودِ خلايا مماثلةٍ في الثديّيات". وتضيفُ قائلةً: "تُشير بعضُ الدّراساتِ الحديثةِ الّتي أجرت مسحاً وفحصاً للدّماغ أنّ هناكَ منطقةً من القشرةِ الدّماغيّةِ البشريّةِ تستجيبُ للمياهِ على نحوٍ خاصّ". ومع ذلك، يجادلُ النّقادُ بأنّ أيّةَ نكهةٍ نميّزها هي نتاجُ التّأثير اللاحقِ لكلّ ما تذوّقناهُ في وقتٍ سابقٍ، مثل حلاوةِ المياهِ بعدَ أن نأكلَ الطّعامَ المالح.
يقولُ زاخاري نايت "Zachary Knight"؛ عالمُ الأعصابِ بجامعةِ كاليفورنيا، سان فرانسيسكو: "ما من شيءٍ معروفٍ تقريباً عن الآليّةِ الجُزيئيّةِ والخَلويّةِ الّتي يتمّ من خلالها التّعرُّفُ على المياهِ في الفمِ والحلق، والمسارِ العصبيِّ الّذي تنتقلُ به تلكَ الإشارةُ إلى الدّماغ". وقد وجد نايت وباحثونَ آخرونَ في دراساتٍ سابقةٍ مجموعاتٍ متميّزةٍ من الخلايا العصبيّةِ في منطقةٍ من الدّماغ تُسمّى: تحتَ المهادِ "hypothalamus"، يُحتَملُ أن تكونَ هي من تحفّزُ الشّعورَ بالعطشِ وتعطي إشاراتٍ تفيدُ بمعرفةِ متى يجبُ على الحيوانِ أن يبدأ أو أن يتوقّفَ عن الشّرب. يقولُ نايت: "ولكن على الدّماغِ أن يتلقّى معلوماتٍ عن مدى حاجته للمياهِ من الفمِ واللسان، لأنّ الحيواناتِ تتوقّفُ عن الشّربِ خلال وقتٍ غيرُ كافٍ لتتمكّنَ الإشاراتُ القادمةُ من القناةِ الهضميّةِ أو الدّمِ لإخبارِ الدّماغِ إذا كانَ الجسمُ قد رُويَ عطشه أم لا".
في محاولةٍ لتسويةِ النّقاش، بحثَ يوكي أوكا "Yuki Oka"؛ عالمُ الأعصابِ في معهدِ كاليفورنيا للتّكنولوجيا في باسادينا، وزملاؤه عن خلايا مستقبلةٍ للتّذوّقِ تستشعرُ المياه ( water-sensing taste receptor cells، TRCs) في لسانِ الفئران، باستخدامِ فئرانٍ مُعدّلةٍ وراثيّاً، كُبحت بعضُ جيناتها عبرَ تثبيطِ العلماءِ لأنواعٍ مختلفةٍ من الخلايا المستقبلةِ للتّذوّق (TRCs)، ثمّ غسلِ أفواهِ الفئرانِ بالمياهِ لمعرفةِ أيّ الخلايا تستجيبُ لها.
يقول أوكا: "كانَ الجزءُ الأكثرُ إثارةً للدّهشةِ في المشروعِ هو أنّ الخلايا المستقبلةُ للتّذوّقِ الحامضيّةِ
(sour TRCs، خلايا تستشعرُ الحموضةَ) والمعروفةِ مُسبقاً، هي من أطلقتْ إشاراتِها بقوّةٍ عندَ التّعرّضِ للمياه". عندما أعُطي الخَيارُ لفئرانٍ تفتقرُ لهذه الخلايا، بأن تشربَ المياهَ أو زيتَ سيليكونٍ اصطناعيٍّ شفافٍ لا طعمَ له (يشبهُ الماءَ شكلياً)، استغرقتِ الفئرانُ وقتاً أطولَ لاختيارِ المياه، ممّا يشيرُ إلى أنّ هذه الخلايا تساعدُ على تمييزِ المياهِ عن السّوائل الأخرى.
الجزءُ المُثيرُ للدّهشة أيضاً بعد ذلكَ، أنّ الفريقَ اختبرَ إمكانيّةَ دفعِ الفئرانِ لشربِ المياهِ بعدَ تنشيطِ الخلايا اصطناعياً، باستخدامِ تقنيّةٍ تُسمّى: علمُ البصريّاتِ الوراثيّ "optogenetics"، إذ هجّنوا وأنتجوا فئراناً تمتلكُ بروتيناتٍ حسّاسةٍ للضّوءِ في خلايا مستقبلاتِ الذّوقِ الحامضيّةِ الخاصّةِ بها، ممّا يجعلُ الخلايا تُطلقُ إشاراتها كتنبيهٍ عند تعرّضها لشعاعٍ من الليزر. وبعد تدريبِ الفئرانِ على شربِ المياهِ من صنبور، استبدلَ الفريقُ المياهَ بأليافٍ بصريّةٍ تُضيءُ بلونٍ أزرقٍ على ألسنةِ الفئران. وفقاً لما يقوله أوكا، عندما "شربت" الفئرانُ الضّوءَ الأزرقَ، تصرفت كما لو أنّها تذوّقت المياه، ولعقتْ بعضُ الفئرانِ العطشى صنبورَ الضّوءِ بمعدّلٍ يصلُ إلى 2000 مرّةٍ كلّ 10 دقائق، وكانت هذه النّتائجُ هي ما نشرهُ الفريقُ في مجلّة (Nature Neuroscience) بتاريخ 29 آيار 2017.
الغريبُ أنّ الفئرانَ لم تتعلّم أبداً أنّ الضّوءَ كانَ مجرّدَ وهمٍ، وبقيت تشربُ "الضّوءَ" فترةً طويلةً من المحتملِ أن تكونَ أطولُ من شربِ المياه الحقيقيّةِ. يفسّرُ أوكا هذا الأمر بقوله: "هذا يشيرُ إلى أنّه على الرّغمِ أنّ الإشاراتِ من خلايا مستقبلةِ التّذوّقِ في اللسانِ يُمكنُ أن تؤدّي بالفئران إلى الشّرب، إلا أنّها لا تلعبُ دوراً في إخبار الدّماغ متى يتوقّف".
لهذا، كما يقول أوكا: "هناك حاجةٌ إلى مزيدٍ من البحثِ لتحديدِ - بدقّةٍ - كيفيّة استجابةِ براعمِ التّذوّقِ مستشعرةِ الحموضةِ للمياه، وبماذا يشعرُ الفئرانُ عند حدوث ذلك". يُعتقد أيضاً أنّه عند غسلِ المياه للعابِ؛ وهو عبارةٌ عن مخاطٍ مالحٍ وحامضيٍّ بنفسِ الوقت، فإنّه يُغيّرُ الرّقمَ الهيدروجينيّ (pH) داخلَ الخلايا، ممّا يجعلُها أكثرَ عرضةً لإطلاقِ إشاراتها.
يرى نايت أنّ الفكرةَ القائلةَ بأنّ إحدى الطّرائقِ الّتي تستشعرُ بها الحيواناتُ المياه هي بإزالةِ اللعابِ، هي فكرةٌ منطقيّةٌ إلى حدٍّ كبير، لكنّها لا تزالُ واحدةً من ضمنِ العديدِ من الطّرائقِ المُحتملةِ لاستشعارِ المياهِ، بما في ذلكَ أيضاً عواملُ مختلفةٌ كدرجةِ الحرارةِ والضّغط.
تعتقدُ دي لورينزو أن هذهِ الدّراسةُ "المُصمَّمَةُ جيّداً والمثيرةُ للاهتمام" تتحدّث أيضاً عن نقاشٍ طويلِ الأمدِ حولَ طبيعةِ التّذوّقِ، فعندما تجدُ وجهةَ نظرٍ معاكسةٍ للرّأيِ السّائد (بأنّ هناكَ خمسُ مجموعاتٍ أساسيّةٍ للتّذوّقِ فقط)، فتيقّن أنّ وجهةَ النّظرِ هذه تخبرُكَ أنّكَ بحاجةٍ (على حدّ تعبيرها) إلى الرّجوعِ إلى لوحةِ الرّسمِ وألوانِك المائيّةِ.
المصادر:
هنا
هنا
هنا