الوراثة ولغز التّوحّد
البيولوجيا والتطوّر >>>> علم الجينات
وتكونُ الإشاراتُ المبكرةُ الدّالةُ على وجودِه غيرَ واضحةٍ، إلى أن يصلَ الطّفل إلى عمرٍ يُتوقَّعُ فيه أن يُطوّرَ مهاراتِه في التّواصلِ المُتقدّمِ، أي؛ بينَ عُمرِ 2-3 سنوات دونَ أن يحدث ذلك، وبسببِ عدمِ وضوحِ الإشاراتِ المُبَكِّرةِ الدَّالةِ عليه، فإنّه من الصّعبِ التّمييزُ بينَ الحالاتِ الجينيّة والبيئيّة.
وفي الواقعِ؛ ولفترةٍ قريبةٍ جداً -منذ نصفِ قرنٍ- كان يُعتقَدُ أنَّ سببَ التّوحدِ هو عدمُ معاملةِ الأمِّ لابنها بحبٍّ ومودّةٍ كافيَين.
وبنظرةٍ متجددةٍ على بياناتِ أبحاثٍ سابقةٍ؛ أُعيدَ التّأكيدُ على وجهةِ نظرٍ قدَّمتْها الأبحاثُ الأولى التي أُجريَت على اضطرابِ التّوحّدِ، والتي تَنْسبُ سببَ هذا الاضطرابِ إلى الجينات في المقامِ الأوَّلِ.
فقد أظهرت دراساتٌ متنوعةٌ أنَّ اضطرابَ التَّوحِّدِ يميلُ إلى التّجمُّعِ في بعضِ الأُسر، ويرتبطُ بجيناتٍ معيّنة.
وقد أوصلَتنا دراساتٌ سابقةٌ مختلفةٌ على التّوحّد إلى هذه النتائج:
ركّزتْ هذه الدراساتُ السابقةُ على إيجادِ رابطٍ ما بينَ علاقاتِ القُرْبَى العائليّة التي ارتبطتْ بالتّوحّد من جهةٍ، وعلى التّنوع الجينيّ من جهةٍ أُخرى.
وقد افترضَتْ هذه الدراسات بتطبيقها على التّوائِم أن 9 من أصلِ 10 مصابينَ بالتّوحّدِ قد ورثوا الإصابةَ عبرَ مزيجٍ من الجيناتِ، بينما خفضتْ دراساتٌ أخرى التّقديرَ إلى ما نسبته 60%.
كما أظهرتْ دراساتٌ غيرُها قد نُشِرتْ عامَ 2011 من قِبَلِ باحثَي جامعةِ ستانفورد في كاليفورنيا، أنّ نسبةَ السببِ الوراثيّ للتّوحّد هي 38% فقط، وفي تحليلٍ مغايرٍ أُجريَ عام 2014؛ اقتربتْ النّسبة من 50%.
ونتيجةً لذلك؛ ظهرَ السّؤالُ الآتي: أيٌّ من هذه الأرقامِ هو الأكثرُ دِقَّةً؟
كانت النسبةُ 50% هي الأكثرُ تشكيكاً؛ لأنّها اعتمدتْ على العمرِ الذي شُخِّصت فيه الإصابةُ ولهذا كان التقديرُ مُشوَّهاً.
وتفترضُ الدِّراسةُ الحَديثةُ التي نتحدَّثُ عنها اليومَ أنّ 83% من حالاتِ التّوحُّدِ جاءَتْ عن طريقِ الوراثةِ، إذ أعادَ باحثون من جامعةِ Ichon للطبِّ في نيويورك تحليلَ دراسةٍ سويديةٍ طويلةٍ شملَتْ أكثرَ من 2.6 مليونَ زوجٍ من الأشقّاء، و37570 زوجاً من التّوائِم، وأقلَّ من مليون زوجٍ من الإخوةِ غيرِ الأشِقّاء، ومن بين هؤلاءِ كان 14516 طفلاً مصاباً باضطرابِ التَّوحُّد.
وعادَ الباحثونَ لدراسةِ المُعطياتِ الضّخمةِ للدراسةِ التي أُجريتْ على الأطفال السويديين، باستخدامِ طرقٍ تحليليّةٍ جديدةٍ أثبتتْ فعاليّتها في هذا المجال.
وكان الاستنتاجُ أنّ نسبةَ 83% التي حددتْها دراساتُ التّوائمِ السّابقةُ، هي الأكثرُ دقّةً مقارنةً مع نسبة 38% التي جاءتْ من أبحاثِ كاليفورنيا.
وأشارَ الباحثون إلى أنّ العواملَ البيئيّة ساهمتْ في الحدِّ الأدنى من الإصابةِ باضطرابِ التّوحّد.
وعلى الرغم من الثّقةِ بنتائجِ الدّراساتِ السّابقةِ عن الدور الرئيسِ التي تؤديه الجيناتُ؛ لكنّها لن تكونَ النّتيجةَ النّهائيّة لهذه المسألة.
فعلى سبيل المثالِ؛ تُشَخَّصُ إصابةُ طفلٍ واحدٍ بينَ 68 بطيفِ التّوحّد، ممّا يجعلُ هذه النّسبةَ غيرَ كافيةٍ لتشكيلِ عيّنةٍ كبيرةٍ تُوضعُ من خلالِها توقعاتٌ دقيقةٌ.
ويُحرَزُ تقدمٌ بطيءٌ في تحديدِ الجيناتِ المسؤولةِ عن الاختلافاتِ العصبيّة التي تؤدّي إلى ظهورِ الأعراضِ المشابهة لتلك الأعراض الخاصّة بالتّوحّد.
وتشيرُ الأبحاثُ إلى أنّ هذه الجيناتِ القليلةَ المسؤولةَ عن التّوحّد قد لا تكونُ موجودةً في أيٍّ من الأبوين، وقد أظهرتِ الدّراساتُ التي أُجريتْ على الطّفراتِ الجينيّة، أنّ ما بين 2300 عائلة كان لديها طفلٌ واحدٌ على الأقلّ يُشَخَّصُ بالتَّوحّد، وقد وُجِدَ أنّ التغيراتِ الجينيةَ التي تَحدُثُ بعدَ الحملِ وتسمّى طفرةَ Postzygotic mosaic يمكنُ أن تكونَ مسؤولةً عمّا نسبته 2% من الإصابةِ بينَ أفرادِ العيّنةِ.
ويقولُ Brian oroak من جامعة أوريغون للصحة والعلوم: إنَّ هذه النتائجَ الأوليّةَ تُظهرُ أنّ الطّفرةَ السّابقةَ أكثرُ شيوعاً ممّا كنّا نعتقدُ، ومع ذلك ما زلنا بعيدَين عن رسمِ الخرائطِ وفهمِ الدّورِ الذي تؤديه الجيناتُ في كيفيةِ تفاعلِ أدمغتِنا اجتماعياً، ولا يمكنُ بالطبع استبعادُ دورِ البيئةِ في هذا البحثِ، ومهما تقدمت اكتشافاتنا في هذا المجال، فإنّ الطريقَ لا يزالُ طويلاً وإن كان التّقدّم فيه مستمراً.
المصادر:
هنا
LandaLanda RJ (2008). "Diagnosis of autism spectrum disorders in the first 3 years of life". Nat Clin Pract Neurol. 4 (3): 138–47. doi:10.1038/ncpneuro0731 . PMID 18253102.