التنجيم؛ حقيقة أم زيف؟
منوعات علمية >>>> العلم الزائف
يبدأُ الناس في أواخرِ كلّ عامٍ بمتابعةِ المنجّمين والاهتمامِ بما سيقولونَه وبما سيتنبّؤون به؛ وذلك طمعاً في معرفةِ ما يُخبّئ لهم المستقبلُ من أخبارَ جيّدةٍ أو سيّئة.
وما زالَ التّنجيمُ حقيقةً وحتّى يومنا هذا مادّةً دسمةً للحوارِ والجدلِ حول حقيقته؛ ومقدار مصداقيّته؛ خاصّةً أنّه تحوّلَ إلى تجارةٍ رابحةٍ تعودُ على أصحابها بمبالغَ طائلة، ممّا يقودنا إلى وضع التنجيم على منضدةِ التشريح لنحاولَ فهمَ حقيقتِه أكثر.
إذاً ما هو التنجيم؟
التنجيمُ شكلٌ قديمٌ من أشكال التنبّؤ بالمستقبل؛ ووسيلةٌ لاكتشافِ معلوماتٍ أو للبحثِ عن تفسيرٍ لظاهرةٍ ما، وهو يقوم على الاعتقاد بأنّ أماكنَ وجودِ النجوم والكواكب والشمس والقمر وتحرّكاتهم؛ يرتبطُ بالأحداث الشخصية والسياسية وحتّى الجيولوجية على وجه الأرض.
لكنْ يبقى السؤال: كيف بدأ الناسُ بالتنجيمِ والتنبّؤ بالمستقبل؟
للإجابة عن هذا السؤال لا بدّ لنا من العودة قليلاً في التاريخ وتحديداً إلى العصورِ القديمة.
التنجيمُ في العصورِ القديمة.
يُعتقدُ أنّ أصلَ التنجيمِ يعودُ إلى البابليّين منذُ أكثرَ من 4000 عام، إذ تطيّروا واستخدمُوا النُذُر والدلائل مثل الأحلام؛ والحيوانات منزوعة الأحشاء؛ والأجرامِ السماوية، وعلى الرغم من تطويرِ البابليّين لمفاهيمَ فلكيةٍ عديدة، لكنّ النظام المألوف في الوقت الحاضر يُنسب إلى الجغرافيّ والرياضيّ والفلكيّ اليونانيّ بطليموس، وكما هو معروف فقد كان بطليموس يعتقدُ بمركزيةِ الأرض، وكان يرى الكون على أنّه مداراتٌ كرويةٌ هائلةٌ داخلَ مداراتٍ أُخرى؛ وهي أفكارٌ خاطئةٌ استمرّت عدّة قرون.
ويُذكر أنّ بطليموس قد دوّن ملاحظاته وجمعها في كتابٍ يُدعى (تيترابيبلوس "الأجزاء الأربعة")، ويُعدُّ هذا الكتابُ المرجعَ الكلاسيكيّ في عالمِ التنجيمِ والشعوذة والسحر.
التنجيمُ في عصرِ النهضة.
ازدادَت شعبيةُ التنجيمِ في أوروبا في عصرِ النهضة، ولكنها ما لبثت أن تضاءلت مرّةً أُخرى في القرنين السادس عشر والسابع عشر؛ بسبب إدانةِ علماءِ اللاهوت المسيحيّين والبابوات للتّنجيم بصفتِه يمثّلُ تحدّياً للإرادة الحرّة؛ ووجهاتِ النظر السائدةِ عن الإله ذي القدرةِ الفائقة.
إلّا أنّ محاربةَ التنجيمِ لم تقضِ عليه؛ وأكبرُ دليلٍ هو شعبيةُ التنجيمِ الّتي لا بأس بها في يومنا هذا، ولعلّ أقوى الحججِ الّتي تسمحُ للناس بتصديقِه هو قولُهم: ما التنجيمُ إلّا علمُ الفَلك ذاتُه، فهل هذا القولُ صحيح؟ وهل يجوزُ القول بأنّ التنجيمَ علم؟
التنجيمُ في مقابلِ علمِ الفَلك.
يقسّمُ المنجّمون السماءَ الى 12 مجموعة؛ تمثّل كل منها أحدَ الأبراج؛ إذ تبقى الشمسُ في كلِّ برجٍ شهراً كاملاً، فبرجك هو الّذي يقعُ خلف الشمسِ لحظةَ ولادتك، ويضعون لك بواسطته صفاتٍ وتوقّعاتٍ معيّنة، ويجبُ التشديدُ هنا على أنّ أغلبَ هذه التوقّعاتِ مبنيّةٌ على معلوماتٍ قديمةٍ جدّاً يتناقلُها المنجّمون عبرَ العصورِ مع بعضِ التعديلاتِ البسيطة.
لكن ما لا يخبرنا به المنجّمونَ أنّ منازلَ الأبراجِ غيرُ متساويةٍ في الحجم، إذ تستغرقُ الشمس 7 أيّام لتمرَّ عبر برجِ العقرب، و44 يوماً لتمرَّ عبرَ برجِ العذراء، إضافةً إلى أنّ هناك 13 مجموعةً في الأبراج وليست 12 مجموعة، إذ أُهملَ برجُ الجواء(حاملُ الثعبان) قصداً أو عن غيرِ قصد، وعلاوةً على ذلك؛ تتمايلُ الأرضُ ببطءٍ على مرّ آلاف السنين، وتعني هذه العمليةُ أنّ مواقعَ الشمس والمجموعاتِ النظميةِ الظاهرة في الأوّل من كانون الثاني لعام 2007 لم تكن المواقع ذاتها في الأوّل من كانون الثاني منذ 2000 عام.
ويُهملُ المنجمّون كذلك أشياءَ كثيرةً في الكون كالمجرّاتِ الأُخرى أو الكوازارات (النجوم الزائفة) أو الثقوبِ السوداء أو المادّةِ المُظلمة، وهذا ليس من العدلِ في شيء؛ لأنّ هذه الهيئاتِ شُكّلت من المصدرِ نفسه الّذي تشكّلت منه مجرّتُنا، وتتألّفُ من العناصرِ الأساسية ذاتِها، وهي جزءٌ من الكون نفسه.
كذلك؛ لم يُعدّ وقتُ الولادةِ نقطةَ العامل الحاسم في التنبّؤاتِ الفلكية؟ لماذا لا يكون وقت الحمل؟ أم أنّ الجنين يُعفى بطريقةٍ أو بأُخرى من التأثيرِ السماويّ؟
بناءً على كلِّ المغالطاتِ والمعلوماتِ الّتي يهملُها المنجّمون؛ يمكنُ القولُ أنّ التنجيمَ لا يعدّ جزءاً من علمِ الفلك، فعلمُ الفلكِ أحدُ العلومِ القديمة؛ والّذي يُعنى بدراسةِ الأجرامِ السماويّة الموجودة في السماء مثل: النجوم، والكواكب، والمجرّات، والشهب، والنيازك، وله تفرّعاتٌ مثل علم الكونياتِ والفلك النظريّ والرصديّ.
بما أنّه ليس علماً؛ فلماذا نحتاجُ الى التنجيم؟
إنّ الحاجةَ الأساسية للتنجيمِ هي الرغبةُ والفضولُ لمعرفةِ مستقبلنا؛ وما يخبّئه لنا في الأيّام القادمة، وما الّذي علينا إجراؤه لمنعِ سوءِ الحظّ.
فالتنجيمُ يروقُ للناسِ كثيراً من الناحيةِ العاطفية، فكلّنا نهتمُّ اهتماماً فطريّاً بمعرفةِ كلّ ما يمكنُ معرفته عن أنفسِنا، ويقدّمُ التنجيمُ نظامَ معتقداتٍ يساعدُ على إشباعِ الجوعِ الروحيّ البشريّ، ويعطينا النصيحةَ بشأنِ كيفيّةِ تحسينِ صحّتنا وتجنّبِ المشكلات، وكيفيّة العثورِ على شريكِ الحياةِ المناسب.
من ناحيةٍ أُخرى؛ يبدو أنّ الأبراجَ والتنبّؤاتِ الفلكيّةَ مجرّدُ تسليةٍ لدى معظم الناس، ويحظى التنجيمُ بشعبيةٍ كبيرةٍ حولَ العالم، وهو قديمٌ ومُستخدمٌ من قبلِ المشاهيرِ والسلطات.
هل التنجيمُ حقيقةٌ أم زيف؟
على الرغمِ من إيمانِ ملياراتِ البشرِ بصحّةِ فرضيةِ التنبّؤ(التنجيم)، والدليلُ على ذلك أنّه قديمٌ واستمرَّ آلافَ السنين.
لكنْ لا يمكن أن يكونَ التنجيمُ حقيقة، فصحّةُ الفرضياتِ العلميةِ تُبنى على المنهج العلمي، لا على شعبيّتها، ولا تعتمدُ الحقيقةُ في العلمِ على النظريّات التي تحصلُ على الشعبيّة الأكبر، بل على الفرضيةِ التي تنتجُ تنبّؤاتٍ تتوافقُ معَ الأدلّةِ التجريبيّة.
إذاً يُعدُّ التنجيمُ علماً زائفاً، فهو لا يلتزمُ بطريقةٍ علميةٍ و لا يستندُ على أساسٍ علميّ. كذلك لا يُطلقُ مصطلحُ "العلم" عبثًا على أيّ معتقدات، ذلك ما لم تخضع هذه المعتقداتُ والنظريّات إلى المعاييرِ العلميّة الدّقيقة للبحثِ والنقدِ والتحليل، وفي غيابِ مثلِ هذه المعايير؛ تصبحُ هذه المعتقداتُ علماً زائفاً.
وفي مقالٍ نشرتْه الجمعيةُ الفلكيةُ لمنطقةِ المحيط الهادئ؛ أكّدَ بأنّه لم يتّفقِ المنجّمون يوماً على تقديمِ أدلّةٍ مادية تفسّرُ الظواهرَ الفلكيةَ التي يزعمُونها، إذ لا يوجدُ دليلٌ على وجودِ آلية علميةٍ مُحدّدةٍ يمكن من خلالها أنْ تؤثّرَ الأجسامُ السماوية في الحياةِ على كوكبِ الأرض؛ أو شؤونِ الناس وحياتِهم اليومية.
والخلاصةُ أنّ التنجيمَ ببساطةٍ مجرّدُ ربطٍ عشوائيٍّ لاصطفافِ النجومِ مع السلوكِ البشريّ، وتعدُّ المؤسّساتُ الأكاديميةُ التنجيمَ من العلومِ الزائفة، وحتّى لو اجتمعَ مع علمِ الفلكِ في بعضِ الأشياء لكنْ لا يمكنُ قبولُه كعلم.
***********************************************************************************
*ويليام شكسبير، يوليوس قيصر، الفصل الأول، المشهد الثاني، ص134.
مصادر المقال:
Pseudoscience and Extraordinary Claims of the Paranormal: A Critical Thinker's Toolkit، jonathan c smith، 2010.
Quantum leap in the wrong direction: Where Real Science Ends...and Pseudoscience Begins، Charles M. Wynn and Arthur W. Wiggins، 2011
هنا
هنا