يختبر العلماء جهازَ راديو جديداً ولكنّه ليس كغيره من أجهزة الرّاديو، فهو مُخصّصٌ للكشف عن أمواج المادّة المظلمة.

Image: Dawn Harmer/SLAC

المادّة المظلمة مادةٌ غيرُ مرئيّةٍ، تقدَّر كميّتُها في الكون بخمسة أضعاف المادّة العاديّة فيه. حَسَبَ إحدى النّظريّات، فإنّ ملياراتٍ من جسيمات هذه المادّة تمرّ عبر الأرض في كلّ ثانيةٍ، وعلى الرّغم من ذلك فلا نشعر بوجودها لأنّها لا تتفاعل مع جسيمات المادّة العاديّة إلّا تفاعلاً ضعيفاً جدّاً بوساطة قوّة الجاذبيّة.

صبّ الباحثون تركيزَهم حتّى الآن على البحث عن جسيمات المادّة المظلمة، ولكن بوجود راديو المادّة المظلمة الآن تحوّل تركيزهم إلى البحث عن أمواجها.

واعتمدوا في تجارِب الرّصد المباشر للجسيمات على كواشفَ بُنيَت تحت الأرض آملين أن يلتقطوا إشاراتٍ ناتجةً عن تصادم جسيمات المادّة المظلمة مع مادّة الكواشف، ما يحدث فقط عندما تكون كتلة الجسيمات هذه كبيرةً بما يكفي لإنتاج طاقةٍ يستطيع الكاشف تحسُّسَها عند التّصادم.

يقول بيتر غراهام Peter Graham، الفيزيائيّ النّظريّ في معهد كافلي لفيزياء الجسيمات الفلكية وعلم الكونيّات Kavli Institute for Particle Astrophysics and Cosmology: "إنْ كانت جسيمات المادّة المظلمة خفيفةً جدّاً، فلربّما فرصتنا لرصدها كأمواجٍ أفضل من فرصتنا لأنْ نرصدها كجسيماتٍ، وبفضل جهازنا الجديد سيسلك البحث هذا المنحى".

يرتكز عمل الرّاديو إلى أحد مفاهيم فيزياء الكمّ وهو الطّبيعة المزدوجة للجسيمات، أي إمكانيّةُ كلّ جسيمٍ أن يسلك سلوكَ جسيمٍ في الأحيانِ بعضِها وسلوك موجةٍ في بعضها الآخر.
فمثلاً الفوتوناتُ، وهي الجسيمات الأوّليّة عديمة الكتلة والّتي تحمل القوّة الكهرومغناطيسيّة، يؤدّي تدفُّقها إلى تشكُّل الإشعاع الكهرومغناطيسيّ، أي الضّوءِ أو ما نطلق عليه عموماً تسمية الأمواج، بما في ذلك أمواج الرّاديو.

الترّصّد لأمواج  المادّة المظلمة:


Image: Dawn Harmer/SLAC

يعترض هوائيّ الرّاديو المنزليّ طريقَ الأمواج الرّاديويّة وتُحوَّل إلى أصواتٍ مسموعةٍ. يضبط المُستمع تردّدَ دارة الرّاديوالكهربائيّة الدّاخليّة الّتي تهتزّ بتردّدٍ يوافق تردّدَ أمواجِ الرّاديو الصّادرةِ من محطّة الإذاعة.

تُماثل آليّة عمل راديو المادّة المظلمة آليةَ عمل الرّاديو المنزليّ الاعتياديّ. إذ يحتوي راديو المادّة المظلمة داخلَه دارةً كهربائيّةً يُمكن ضبط تردّد اهتزازها لتوافقَ اهتزازات أمواج المادّة المظلمة، ما يجبِر الدّارةَ إلى دخول حالةٍ تُدعى الرّنينَ. يقيس العلماء تردّدَ الرّنينِ ومنه يُمكن حساب كتلة جسيمات المادّة المظلمة.

تكمن الفكرة في تغيير التردّدات بدقّةٍ وبطءٍ شديدَينِ إلى أن تُغطَّى التّردّداتُ المتاحةُ جميعُها. وبما أنّ الإشارةَ الكهربائيّة النّاتجة عن أمواج المادّة المظلمة ستكون ضعيفةً جدّاً، لجأ غراهام إلى الاستعانة بفريقٍ بحثيٍّ آخرَ بقيادة كينت إيروين Kent Irwin. تطوّر هذه المجموعة كواشفَ مغناطيسيّةً شديدةَ الحساسيّةِ مصنّعةً من موادٍّ فائقة التّوصيل الكهربائيّ تسمّى SQUID، يُمكن توصيلُها بمكبّراتِ إشارةٍ لنتمكّنَ من رصْد إشارات المادّة المظلمة.

ولفهم مدى خفّة هذه الجسيمات تكفي معرفةُ أنّ راديو المادّة المظلمة سيبحث عن جسيماتٍ تتراوح كتلتُها بين 10^-12 و10^-6 إلكترون-فولت، أمّا كتلة البروتون مثلًا فتبلغ 10⁹ إلكترون-فولت. ولكنّ مجال البحث هذا يناظرُ تردّداتٍ عاليةً جدّاً، أي أنَ راديو المادَة المظلمة يُمكنه التقاط أمواج الرّاديو والتّلفاز، ما يُوجِبُ حجبَ الأمواج غيرِ المرغوب بها. وَصَفَ إيروين ذلك قائلاً: "في الواقع، كنّا لنحتاجَ إلى طبقاتٍ من النّحاس يبلغ ثُخنُها متراتٍ عدّةً لمنع وصول تلك الأمواج إلى الرّاديو، لولا أن حقّقنا ذلك بوساطة طبقةٍ رقيقةٍ من معدنٍ فائق التّوصيل".

يتميّز راديو المادّة المظلمة بأنّه ليس بحاجة لأنْ يُوضَع عميقاً تحت الأرض لحمايته من الأشعّة الكونيّة كما هو الحال في التّجاربِ الأخرى السّاعِيَةِ لرصد جسيمات المادّة المظلمة، وهكذا يمكن وضْعُ هذا الرّاديو في قبوِ الجامعة.

أعرب باحثُ ما بعد الدّكتوراةِ آران فيبس Arran Phipps المشاركُ في هذا المشروع عن سعادته به قائلاً: "من العظيم أن تُتاح لنا الفرصة لأنْ نجرّبَ طريقةً جديدةً للرّصد باستخدام جهازٍ ذي تكلفةٍ ومجازفةٍ صغيرتَين".


Image: Dawn Harmer/SLAC

ينطلق هؤلاء الفرسان بخطواتهمُ الأولى للبحث عن أمواج المادّة المظلمة، وجميعنا ننتظر النّتائج بفارغ الصّبر.

المصادر:
هنا
هنا