iهل من الممكن فعليًا الوصول إلى درجة حرارةٍ مساويةٍ للصفر المُطلق؟
الفيزياء والفلك >>>> فيزياء
بعد أكثر من مئة عامٍ على الشكوك الّتي أبداها أمثالُ أينشتاين شخصياً، قدّم الفيزيائيون أخيراً دليلًا رياضياً على صحّة القانونِ الثالث للديناميكا الحراريّة. والّذي يَنصُّ على أنَ دَرجَة حَرارةِ الصّفر المُطلق لا يُمكن تحقيقها فعلياً، بِسبَبِ استِحالة انعدام الأنتروبية (أي العشوائية أو الاضطراب) في أي نظام. (الصفر المطلق يساوي 0 في نظام كلفن، أو -273.15° C في نظام الدرجات المئوية، أو -459.67 ° F في نظام درجات الفهرنهايت)
وبالرّغم من أنّ العُلماء شككوا مُنذ فترةٍ طويلةٍ بوجود "حدٍّ فعلي لِسُرعَةِ التبريد الكونيّة" يمنعنا بشكل قاطع من تحقيق الصفر المطلق، إلا أنّ هذه الدراسة تمثّلُ أقوى دليلٍ يُثبِتُ أنّ قوانيننا الفيزيائيّة الحاليّة تبقى صحيحةً حتّى عند أدنى درجة حرارة ممكنة.
ويقول في هذا الشأن لويس مسانيس، من كلية لندن الجامعية، على موقع IFLScience: "في البداية بيّينا أنهُ من غير الممكن فعلياً تَبريدُ أيّةِ نِظام ذي موارد محدودة إلى الصّفر المُطلق، ثُمّ استنتجنا أنّهُ مِنَ المُستحيل تَبريدُ النّظام إلى الصِّفر المُطلق في وقتٍ محدود. ومن ثُمّ أنشأنا علاقةً بين الوقت وأدنى درجة حرارة ممكنة، فتوصّلنا إلى ما يُسمّى "سُرعةَ التبريد".
يشير مسانيس هنا الى الافتراضيْن الأساسييْن اللذين يعتمد عليهما القانون الثالث للديناميكا الحرارية، من أجل إثبات صلاحيته.
الافتراض الأول، ينصُّ على أنّ تحقيق درجة الصفر المطلق في نظام فيزيائي، يتطلّبُ أن تكون الأنتروبية للنظام مساويةٍ للصفر أيضاً.
أما القاعدة الثانية فتُعرفُ باسم "مبدأ عدم إمكانية التحصيل"، وتنصُّ على أنّ الصِفرَ المُطلق لا يمكن تحصيله فيزيائياً لأنه لا يمكن لأي نظام أن تكون قيمةُ الأنتروبية فيه صِفرًا.
عام 1906 اقترحَ الكيميائي الألماني فالتر نيرنست القاعدةَ الأولى، وعلى الرغم من حصوله على جائزة نوبل في الكيمياء لذلك الإنجاز، إلا أنّ العلماء الكبار أمثال ألبرت أينشتاين وماكس بلانك لم يقتنعوا بما أثبته نيرنست. وتوصل العالمان آينشتاين و بلانك إلى نسختهم الخاصّة من "حدٍّ التبريد في الكون".
وهذا ما دفع نرنست لأن يدعم أفكاره باستمرارٍ حتى قدّم القاعدة الثانية في عام 1912، مؤكّداً أنّ الصفر المطلق مستحيلٌ فيزيائياً.
تم دمج قاعدتي نيرنست في ما يُعرَفُ حالياً باسم القانون الثالث للديناميكا الحرارية. وبينما يبدو هذا القانون صحيحاً، إلا أنّ أُسُسهُ قد تبدو ضعيفةً قليلاً. وعند الحديث أو الإشارة إلى قوانين الديناميكا الحرارية، يُعدُّ القانون الثالث أقلَ قيمةً من القانونين الأول و الثاني.
ولاختبار مدى قوة القانون الثالث للديناميكا الحرارية في كلا النظامين الكلاسيكي والكمي، عزم مسانيس وزميله جوناثان أوبنهايم على اختبار الإمكانية الرياضيّة للوصولِ إلى الصِفر المُطلق في نظامٍ محدود الوقت والموارد.
يقوم مسانيس بدراسة الوقت المُستغرق في عملية التبريد حسابيًا، تمامًا كما يحدث عندما تقوم بتسجيل الوقت الّذي يستغرقهُ جهازك الحاسب في حلِّ خوارزميةٍ ما. بنفس الطريقة، يُمكننا فعلياً حساب الوقت الذي يستغرقه نظامٌ ما حتّى تنخفض حرارتهُ.
لعلّ الأمر يُصبحُ أقرب للإدراك، عندما تفكر بعمليّة التبريد على أنَها "إزالة" الحرارة الموجودة في نظام ما وإيداعها في البيئة المحيطة به.
تُحدِد الحرارة الابتدائية للنظام عددَ الخطوات اللازمة لإزالة الحرارة كلها خارجه، وكذلك سيحدد حجم "المُستوعَب" الذي سيتم إيداع تلك الحرارة فيه قُدراتك على التبريد.
وباستخدام التقنيات الحسابية المستمدة من نظرية المعلومات الكمومية - التي رفضها أينشتاين في صيغته الخاصة من القانون الثالث للديناميكا الحرارية - استنتج مسانيس و أوبنهايم أنه بالإمكان الوصول إلى الصفر المطلق إذا كان لديك عددٌ لا نهائيّ من الخطوات، و مُستوعَبٌ لا حصر له.
وبالطبع ليس من المتوقع أن تكون تلك المتطلبات قابلة للتنفيذ في أي وقتٍ من الأوقات!
وهذا ما شكّك به الفيزيائيون منذ زمن طويل، لأن القانون الثاني للديناميكا الحرارية يشير أن الحرارة ستتحرك تلقائياً من النظام الأكثر حرارة إلى النظام الأكثر برودة، وبالتالي، ستكتسبُ المادة التي تحاول تبريدها الحرارة بشكل دائم من محيطها.
وعندما يكون هنالك أي كمية من الحرارة داخل المادة فذلك يعني أن هناك حركة حرارية داخلها، مما يضمن وجود بعض الأنتروبية بشكل دائم.
وهذا يفسر السبب الّذي يدفعُ كل شيءٍ في الكون إلى الحركة حتى ولو بمقدار قليل، فلا وجود لشيءٍ ساكنٍ تماماً حسب القانون الثالث للديناميكا الحرارية.
ويقول الباحثون إنهم يأملون أن تضع الجهود الحالية القانون الثالث في المستوى المتعادل المنسجم مع القوانين الأخرى للديناميكا الحرارية، وفي نفس الوقت يأملون بإيجاد السرعة النظرية القصوى حتى نتمكن من التبريد الفعلي لشيء ما.
وبعبارة أخرى، لقد استخدم مسانيس الرياضيات لقياس خطوات التبريد، مما يسمح للباحثين الآخرين بحساب حد السرعة اللازم لتبريد النظام بقدر الإمكان في وقتٍ مُحدّد.
وهذا أمرٌ هام، فبالرغم من عدم تمكننا من الوصول إلى الصفر المطلق بتاتاً، إلا أنه بإمكاننا الحصول على قيمةٍ قريبةٍ جداً من الصفر المطلق، فها هي وكالة ناسا التي قد أنشأت مؤخراً مختبرًا للذرّات البارِدة، يُمكن أن تصل درجة الحرارة داخله إلى بضعة أجزاء من مليار جزء من الدرجة فقط من درجات الحرارة فوق الصفر المطلق، أي أبرد بمئة مليون مرة من أعماق الفضاء.
رابط المقال هنا
إنّ الحصول على درجات حرارةٍ مُنخفضةٍ كهذه، ينبغي أن يمكننا من ملاحظة السلوكيات الذرية الغريبة التي لم نشهدها من قبل. فالقدرة على إزالة الحرارة من نظام ما بالقدر المستطاع، سيكون حاسماً في السباق لبناء حاسبٍ كمومي فعال في نهاية المطاف.
نشرت الدراسة في موقع مجلة Nature Communications هنا