اصطدام نجمين قد يُغيّر من فهمنا للتوسّع الكوني
الفيزياء والفلك >>>> علم الفلك
تابع المجتمع العلميُّ بدهشةٍ كبيرةٍ نهاية العام الماضي اصطداماً عنيفاً بين نجمين نيوترونيّين عملاقين شديديّ الكثافةِ. يبعد النّجمانِ عن أرضنا حوالي 100 سنةٍ ضوئيّةٍ، وقد نتج عن الاصطدام أمواجٌ ثقاليّةٌ عنيفة (تشوّهاتٌ في نسيج الزّمكان)، تلاها وميض لحظيٍّ للضّوء. هذا الوميض الضوئي هو بالذات ما سنتحدث عنه في هذا المقال. المصادر: 1 - هنا 2 - هنا 3 - هنا
دعونا نُذكّركم أولاً بالنّجم النيوترونيّ.
النّجم النيوترونيّ هو شكلٌ كثيفٍ من المادّةِ ينشأ بعد فناءِ نجمٍ عظيمِ الكتلةِ يفوقُ كتلةَ شمسنا بحوالي 8 أضعافٍ أو أكثرَ، وذلك عقبَ انفجارٍ هائلٍ يُسمّى المستعر الأعظم. ما يتبقى بعد الانفجارِ نواةُ النّجمِ المكونّةُ غالباً من الحديدِ، والّتي تنهارَ على نفسها مُشكلةً النّجم النّيوتروني. إذاً لنقلْ إنّهُ نواةُ نجمٍ عملاقٍ هائلِ الكتلة.
Image: Kevin Gill/flickr (CC BY-SA 2.0)
هدمت عمليّة رصدِ الأمواجِ الثّقاليّة والوميضِ الضّوئي، سنواتٍ من البحثِ المستمرّ في موضوعٍ لا يتعلّق بالظّاهرتين مباشرةً، بل بسؤالٍ طُرح خلالَ السّنوات الأخيرةِ من القرن الماضي: لماذا يتسارعُ تمدّد الكون؟
يرتبطُ هذا السّؤال بأرصادٍ أُجريت عام 1998 بالاستعانةِ بمقرابِ هابل، وجد العلماءُ عبرها أنّ الكون ينمو ويتوسُّع بشكلٍ متسارع؛ أي أنّ المجرّاتِ تتطايرُ مبتعدةً عن بعضها البعضِ بسرعةٍ تزدادُ عاماً بعد آخر، وهو ما ناقضَ فكرةً كانت سائدةً آنذاك تفيدُ بأنّ توسّع الكونِ يتباطأ. ولتفسير هذا التّناقضِ افترض العلماءُ وجودَ طاقةٍ غامضةٍ سمّيت الطّاقةُ المظلمة، اعتبروها المسؤولَ الفعليّ عن تسارعِ تمدّدِ الكون.
تبيّنَ لنا مع وفرةِ البحوثِ العلمية أنّ كلاً من الزّمان والمكان مرنٌ بدرجةٍ كبيرةٍ وقابلٌ للتغيّر شرط الحفاظ على ثبات سرعةِ الضّوء؛ إذ أنّهُ الثّابت الوحيدُ وفقاً لإحدى أهمّ النّظريّات الّتي اجتاحت علمَ الفيزياءِ في القرن الماضي، وهي النّظريّة النّسبيّةُ العامّة لآينشتاين، والّتي أوضحت كيفيّة تُشويه الجاذبيةِ لنسيجِ الزّمكان.
ولا تزالُ التّأثيرات المُترتّبةُ على هذا التّشوّه ملحوظةً حتّى في أكثرِ البرامجِ تطبيقاً في حياتنا؛ وهو نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) الموجودِ في أيّ هاتفٍ ذكيّ، ناهيك عن تطبيقاته الواسعةِ في مجالاتِ الهندسةِ المدنيّة.
تتنبأ نظريّةِ آينشتاين بإمكانيّةُ إصدارِ نسيجِ الزّمكان أمواجاً مشابهةً للأمواجِ الّتي تظهرُ على سطحِ الماءِ عند رمي حجارة فيه. ربّما ليست مرئيّةً بنفسِ درجةِ أمواجِ الماءِ فهي تحتاج معدّاتِ رصدٍ عاليةِ الدّقة، لكن من الممكن رصدها عند حدوثِ ظاهرةٍ طبيعية تولّد أمواجًا ثقاليّة عنيفة، مثل اندماجِ ثقبينِ أسودين مثلاً.
رُصدت هذه الأمواجُ للمرّة الأولى في مرصدِ ليغو "LIGO" عام 2015، ولو كنتَ من متابعي أخبارِ الفلكِ فربّما تتذكّر الضجّةَ الإعلاميّةَ الواسعةَ النّطاقِ الّتي اجتاحتِ المجتمعَ العلميّ في تلك الفترة. أتاح هذا الرّصدُ للعلماءِ رؤيةً مختلفةً للكونِ، ولا ننسى طبعاً أنّها قادت أبرزَ علماءِ هذا المرصدِ إلى نيلِ جائزةِ نوبل في الفيزياء.
لمعرفة المزيد عن هذا الانجاز تصفّح مقالنا هنا
أثّر رصد الأمواجِ الثّقاليّةِ الناجمة عن اندماج نجمين نيوترونيّين بدوره على فهمنا للكون، ولكن ما أثارَ اهتمامَ العلماءِ بالفعل هو وميض الضّوء الصادر بعد رصدِ الأمواجِ الثّقاليّة بـ 1.7 ثانية.
ما نعرفهُ حالياً
التّأخير المُقدّر بحوالي 1.7 ثانية مهمٌّ للغاية، لأنّهُ يوضّح لنا بأنّ الأمواج الثّقاليّة والأمواجَ الضّوئيّة تنتشرانِ بنفسِ السّرعة تقريباً، وفي الواقع تعتبرُ هاتان السّرعتانِ من أقربِ القيمِ الظّاهرية المرصودةِ على الإطلاق.
لا يزالُ البحث في العديد من الفرضيّات جارياً، فلدينا نموذجٌ رياضيّ يمكنه تفسير تطوّر الكونِ من جزءٍ من الثّانية التي سبقت الانفجارَ العظيمَ وحتّى الآن؛ أي على مدى أربع عشرة مليارِ سنةٍ. تكمنُ المعضلةُ الوحيدة في ذلكَ النّموذج أنّهُ لتفسيرِ عمليّات الرّصد يجبُ إضافةُ "الطّاقة المظلمة"، وهي ذات تأثيرٍ عظيمٍ، حيثُ يُعزى لها أكثرُ من 70% من طاقةِ الكونِ، إلا أنّنا لا نعرفُ ماهيّتها. وبسببِ تأثيرِ الطّاقةِ المُظلمةِ يبحثُ علماء الفلكِ في تعديل - أو استبدال - نظريّةِ آينشتاين بأخرى تستطيعُ تفسيرَ وجودِ الطّاقة المُظلمة.
في حين تعتمد بعض الفرضيّاتِ المُقترحةِ على ربطِ سرعةِ الضّوءِ بسرعةِ الأمواجِ الثّقالية، لكن مع قلّةِ البياناتِ المُتوفّرةِ لدينا حالياً فإنّ إمكانيّةَ معرفةِ مدى صحّة تلك الفرضيات أمرٌ صعبٌ للغاية، وبعدَ رصدِ اندماجِ النّجمين أصبحَ لدى العلماءِ بعضُ الأفكارِ المُحدّدةِ الّتي ترفضُ تلك الفرضيّات.
ومع غيابِ البياناتِ المُتكاملة تبقى إمكانيّةُ تعديلِ نظرية آينشتاين قائمةً، بحيث يمكنها حسابُ الطّاقةِ المظلمة، لكنّ تذبذبَ بياناتِ أمواجِ الثّقالية قد يؤخر إنجازَ النّظريّة الجديدة.
جميعُ النّظريّات الّتي صمدت أمام البياناتِ الجديدةِ هي تلك البسيطةُ والبعيدةُ عن التّعقيد؛ وعلى رأسها النّظريّة الّتي تُفيد بأنّ الطّاقة المظلمةَ هي طاقةُ الكونِ الفارغِ، وقيمةُ تلكَ الطّاقة هي نفس القيمة الّتي رصدناها بمحضِ الصدفة.
توجدُ فرضيّةٌ أخرى صمدت أيضاً، تتعلّق بفرضِ وجودِ حقل هيغز الّذي يُعتبرُ بوزونُ هيغزِ الشّهير أحدُ مظاهره، وهو أوّل حقلٍ عدديٍّ رُصدَ في الطّبيعة؛ أي أنّ له قيمةً في كلّ نقطةٍ على نسيجِ الزمكان لكن دونَ تحديدِ اتّجاهات بما يشبهُ إلى حدٍّ ما خريطةَ توزيعِ الضّغط في خرائطِ التّنبؤات الجويّة؛ حيث توجد قيمةٌ للضّغطِ في كلّ نقطةٍ دونَ توضيح اتّجاهات القيم، في حينِ أنّ خرائطَ سرعاتِ الرّياح توضّح اتّجاهات سرعةِ الرّياح، وبالتّالي هي ليست حقلاً عدديّاً بل اتّجاهيٍّ أيضاً.
ترتبطُ كلّ الجسيماتِ في الطّبيعة بحقول كموميّةٍ - باستثناء جسيمِ هيغز - وهي ليست حقولاً عدديّةً لكنّ هيغز هو الاستثناءُ لتلكَ القاعدة، ومن الممكن أن تكونَ الطّاقة المظلمةُ تماثلُ ذلك الجسيم؛ أي قد تكونُ حقلاً عدديّاً موجوداً في كلّ مكانٍ يدفعُ الكون بعيداً في كل الاتّجاهات. في هذه الحالةِ علينا الانتظارُ حتّى تُظهرَ لنا التّلسكوباتُ القادمةُ بعض البيانات الّتي تُرجّح كفّةَ إحدى النّظريّات، لنحسمَ أمرَ ذلك اللغزِ الكبيرِ الّذي يحولُ أمامَ تصوّرنا الشّامل عن الكون.