مصيرُ المصارفِ في مواجهةِ التّكنولوجيا الماليّة
الاقتصاد والعلوم الإدارية >>>> علوم مصرفيّة
وهذا التطور البطيء الذي شهده القطاع المصرفي في مجال إجراء معاملات الائتمان المصرفي رقميّاً للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم؛ جعله ضعيفاً أمام التّطور الرقمي الذي يحصل في المجالات كافة، وبالنظر إلى الدراسات الحالية، تشكل مؤسسات الإقراض عن طريق الإنترنت خطراً حقيقيّاً على مصارف التجزئة، وإذا أرادت المصارف تجاوزَ هذه الموجةِ القادمةِ من التكنولوجيا المالية Fintech فعليها اتخاذ خطوات جدية لإجراء تحوّلٍ رقميٍّ في معاملاتها الائتمانية، أو اتباع استراتيجيات من شأنها تمكين هذه المصارف من التنافس بنجاح مع المؤسسات الرقمية.
تطور الإقراض الإلكتروني للشركات الصغيرة والمتوسطة:
طلبت الشركات الصغيرة أن تُوَفَّرَ لها خدماتٌ مصرفيّةٌ تُمَكِّنُها من التفاعل عن طريق الويب ومن قِبَل مستخدمي الهواتف النقالة، على نحو مشابه للتقنيات التي يستخدمونها في حياتهم الشخصية، وأشارت دراسة حديثة أجرتها مؤسسة "جافيلين ريسيرتش" Javelin Research أن 56٪ من الشركات الصغيرة والمتوسطة ترغب بالوصول إلى أفضل الأدوات المصرفية الرقمية، وبينت كذلك دراسة استقصائية منفصلة أجراها أوليفر وايمان وفونديرا Oliver Wyman and Fundera أن أكثر من 60٪ من أصحاب الأعمال الصغيرة يُفضِّلون التقدم بطلبٍ للحصول على قروض عن طريق الإنترنت بالكامل.
إضافةً إلى تطوير خبرة أصحاب العمل؛ ويعدُّ تخفيض تكاليف الإقراض في كلِّ مرحلة من مراحل العملية من أهمِّ مميزات رَقْمَنَةِ العمليات المصرفية، ممَّا يجعل العملاء من الشركات الصغيرة والمتوسطة أكثر ربحيّةً للمقرضين، ويَخلقُ فرصةً لخدمة مجموعة واسعة من تلك الشركات، ويعدُّ موضوعُ تخفيض التكاليف أساسيّاً جدّاً للشركات الصغيرة والمتوسطة، نظراً لأنَّ هذه التكاليف قد تكون هائلة، إذ قد تكون تكاليف المعاملات للحصول على قرض بمبلغ مئة ألف دولار أمريكي مساوية لتكاليف معاملات قرض بمبلغ مليون دولار أمريكي تقريباً، لكن مع أرباحٍ أقل للمصرف، ولذلك نجدُ المصارف تعطي الأولوية للشركات الصغيرة والمتوسطة التي تطلب مبالغ أكبر، والمشكلة أنَّ 60% من الشركات الصغيرة تحتاج قروضاً تقلُّ قيمتها عن مئة ألف دولار أمريكي، فنلاحظ هنا أهمية رقمنة العمليات المصرفية إن كانت تخفض مصاريف الاقتراض بالفعل، وذلك يساعدُ عدداً أكبر من الشركات الصغيرة على الاقتراض.
رصدت هذه الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا المالية الفرصَ الكامنة فيها، ممَّا أدَّى إلى انفجارٍ في عمليات الإقراض عن طريق الإنترنت للشركات الصغيرة والمتوسطة، فقد بلغت قيمة القروض الممنوحة عن طريق الإنترنت في العام الماضي لهذه الشركات أقلّ من 10 مليارات دولار أمريكي، وهو جزء صغير مقارنةً بقروضِ هذه الشركات القائمة في المصارف الأمريكية التي تبلغ 300 مليار دولار أمريكي، وعلى الرغم من هذه الحصة السوقية الهزيلة للقروض عن طريق الإنترنت، إلا أنها تخفي إمكانيَّاتٍ مستقبليَّةً هائلةً؛ إذ قدرت شركة مورغان ستانلي Morgan Stanley أن إجمالي القيمة السوقية للشركات المُقرضة عن طريق الإنترنت قد يبلغ 280 بليون دولار أمريكي، وتتوقع الشركة نمو هذه الصناعة بمعدل 47٪ سنويّاً حتى عام 2020، وأن تُقَارِبَ نسبةَ المقرضين عن طريق الإنترنت عندئذ خُمْسَ إجمالي السوق الإجمالي للإقراض للشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم، وتؤكِّدُ هذه التوقعات مخاوف المصرفيين؛ إذ تُطَوّرُ الرقمنةُ نماذِجَ الأعمالِ متيحةً بذلك قدراً أكبرَ من المنافسة، مما يزيد الضغوطات على العاملين في هذا المجال بالنتيجة، وحذَّرَ جيمي ديمون الرئيس التنفيذي لبنك جي بي مورغان تشيس JP Morgan Chase في خطابه للمساهمين في حزيران من عام 2015 قائلا: "إنّ وادي السيليكون قادم" في إشارة منه إلى أن شركات التكنولوجيا المالية سوف تبدأ باحتلال وول ستريت Wall Street.
هل يمكن للمصارف التقليدية أن تنافس؟
تتمتع هذه المصارف بالعديد من الميزات التنافسية في مجال تمويل الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم، ولا يجب التقليل من قيمتها، ومنها انخفاض تكلفة اقتراض الأموال وموثوقية مصادرها، وهي ودائع دافعي الضرائب ونافذة الخصم للمصرف الفيدرالي، أما عن تكلفة الاقتراض للمقرضين عن طريق الإنترنت فقد تزيد عن 10٪، إضافةً إلى أنَّ مصادرها قد تكون من مستثمري شركات متقلبين مثل صناديق التحوط. وكميزة أخرى، لدى المصارف التقليدية قاعدة عملاء قادرة على الوصول إلى بيانات الملكية الخاصة بالمودعين، و يمكن استخدامها للعثور على المقترضين المؤهلين الذين لديهم علاقة مع المصرف بالأصل، وهذه ميزة بالمقارنة مع المقرضين عن طريق الإنترنت الذين لديهم ولاء محدود للعلامة التجارية، فضلاً عن صعوبة الحصول على عملاء الأعمال الصغيرة عن طريق الإنترنت، إذ تُعدُّ عمليّةً مكلفةً وتنافسية.
لكن قدرة المصارف على استغلال هذه الميزات التنافسية لمصلحتها ليست أمراً حتميّاً؛ فقد استطاع المقرضون عن طريق الإنترنت تسهيل عملية التقديم على القروض، وعوضاً عن الذهاب إلى فرع المصرف وهدر الوقت في العديد من المعاملات الورقية؛ يمكن للمقترضين هنا استكمال الطلبات عن طريق الإنترنت في أي وقت، وذلك باستهلاك دقائق باستخدام الكومبيوتر الشخصي أو الهاتف المحمول. وخفض الوقت المحدد للموافقة على القروض ليصبح أياماً، بل دقائق أحيانا، وذلك بسبب الخورازميات المعتمدة على معلومات العملاء لتحديد المؤهلين مسبقا للاقتراض، وتُجهَّزُ هذه المعلومات من تاريخٍ ائتمانيٍّ للعميل، وبياناتِ حسابِ إيداعٍ، وضرائب، وثلاثة أشهر من العمليات على الحساب، وفي حال رغب العميل في التسوق عن طريق الإنترنت لمعرفة ما يملكه من خيارات للحصول على قرض، فبإمكانه زيارة مواقع وسطاء القروض مثل فونديرا Fundera أو إنتويت كويكبوك Intuit’s QuickBooks Financing ليتمكن من المقارنة بين الاحتمالات المتاحة، وعلى النقيض من ذلك، فإن المصارف التقليدية -ولا سيما الإقليمية والصغيرة منها- لا تتيح هذه الفرصة لعملائها وتعتمد على إجراءات ورقية مكثفة، مما يزيد المدة المتوقعة للموافقة على القرض إلى 20 يوماً.
الأسئلة التي على المصارف أن تسألها لنفسها
يوجد أربع استراتيجيات عامة يمكن للمصارف التقليدية أن تتبعها لتنافس أو تتعاون مع اللاعبين الجدد في الإنترنت، ويعتمد اختيار الاستراتيجية على مقدار الاستثمار في الوقت والمال الذي يرغب المصرف في بذله بغرض دخوله إلى السوق الجديدة، إضافة إلى مستوى التكامل الذي يريد المصرف تحقيقه بين عملياته التقليدية وأنشطته الرقمية الجديدة.
يعتمد خياران -من الخيارات الأربعة السابقة- على استراتيجية تكامل منخفضة بين العمليات التقليدية والرقمية، وهي التي تتعاقد فيها المصارف على أنشطة رقمية جديدة في اتفاقيات طويلة الأجل، أو تسعى إلى استثمارات طويلة الأجل في شركات ناشئة منفصلة، وهذا يعني وضع أخمص القدمين في الماء، مع إبقاء العمليات الحالية منفصلة نسبيا.
ومن جهة أخرى، قد تختار بعض المصارف استراتيجيات أكثر تكاملاً مثل الاستثمار في الشراكات؛ إذ تدمج التكنولوجيات الجديدة في عملية طلب القرض وصنع القرار في المصرف، ويحدث ذلك بطريقة "العلامة البيضاء" “White Label” أحيانا، وهي طريقة يصنع عن طريقها المنتج أو الخدمة من قبل جهةٍ ما دونَ علامة تجارية، وتبيعها جهة أخرى للمستخدم النهائي بعد إضافة العلامة التجارية الخاصة بها، ومن الأمثلة على ذلك: الشراكة الأخيرة بين أونديك OnDeck وجي بي مورغان تشيس JP Morgan Chase. وقد استثمرت بعض المصارف الكبيرةُ حتى الإقليميةُ منها استثماراتٍ مهمةً لبناء برامج رقمية خاصة بها، مثل البنك الشرقي Eastern Bank، وبما أن مزيداً من شركات التكنولوجيا المالية الجديدة قد أصبحت عرضة للاستحواذ، فإن المصارف قد تعمل على "بناء أو شراء" هذه القدرات الرقمية الجديدة.
بالنسبة للمصارف التي تختار بناء أنظمتها الخاصة للتنافس مع اللاعبين الجدد، يُطلب منها استثمارٌ كبيرٌ في أتمتة الجوانب الروتينية من عملية الإقراض للحصولِ على دمج مثالي للبيانات الخاصة بعملائهم، والعمل على خلق تجربة أفضل للعملاء عن طريق إنشاء برامج ذات تصميم سهل وسلس عليهم، ويعدُّ موضوع تحسين تجربة العملاء غير متزامن مع الثقافة الحالية للمصارف التقليدية، لذلك نجد العديد من المصارف تكافح بسبب المقاومة الداخلية للأنظمة الجديدة من قبل العاملين فيها.
أما بالنسبة للمصارف التي تختار أن تتشارك مع المقرضين عن طريق الإنترنت بطرائق مختلفة فيكون ذلك بأن يكون هناك مقرض في الإنترنت مسؤول عن طلبات القروض الخاصة بالمصرف، أو عن طريق استخدام النموذج الائتماني الخاص بالمقرض عن طريق الإنترنت للحصول على فعالية أكبر في عمليات الإقراض وتقديم طلبات القروض المصرفية.
ولكن السؤال الحاسم في هذا الخيار هو هل كانت المصارف تريد الحفاظ على معايير الإقراض الخاصة بها، أم أنها تفضل استخدام خوارزميات جديدة وضعها شريكها الرقمي؟ وعلى الرغم من سرعة عملية الإقراض الجديدة واستخدامها لبيانات جديدة مثيرة للاهتمام، مثل المعاملات المصرفية الحالية والتدفقات النقدية، فما زال الوقت مبكرا للاعتماد على هذه الطرائق الجديدة لدراسة التاريخ الائتماني للعملاء، إذ إنها لم تُخْتَبر إلى حدٍّ كبيرٍ في أوقات الانكماش الاقتصادي.
وثمة جانب سلبي آخر للشراكة مع المقرضين عن طريق الإنترنت، وهو المستوى الكبير من الموارد المطلوبة للامتثال للرقابة الاتحادية، وهو الأمر الذي يجعل المصارف مسؤولة عن أنشطة شركائها، ومثال ذلك: يوجد في الولايات المتحدة الأمريكية ثلاث هيئات تنظيمية اتحادية على الأقل تمتلك متطلبات متداخلة في هذا المجال، مما يخلق أثراً سلبيّاً في المصارف.
وتمتلك المصارف التي اختارت الشركات المتينة الخيارَ لشراء القروض الناشئة على منصة المقرض البديل، ويتيح ذلك للمصرف زيادة تعرضه لقروض الشركات الصغيرة والمتوسطة، وإمكانية اختيار التسهيلات الائتمانية التي يرغب في الاحتفاظ بها، مع تحرير رأس المال للمقرضين عن طريق الإنترنت.
ويعد هذا النوع من الشركات الأكثر انتشاراً في عالم إقراض الشركات الصغيرة عن طريق الإنترنت، إذ تشتري مصارف مثل جي بي مورجان تشيس وبنك أوف أمريكا وسونتروست الأصول من المقرضين عن طريق الإنترنت.
ونظراً لهذه المعضلة التي لا تفصح عن الأفضل بين المصارف التقليدية وشركات التكنولوجيا المالية الناشئة، فقد يكون حلها بربح أحد الطرفين، أو بدمجهما معاً، وقد يشغل إقراض الشركات الصغيرة والمتوسطة حيّزاً كبيراً من أعمال المصارف، ولكن باعتمادها فقط على خيارات تحدد فيها مكان اللعب وكيفية الفوز، ويجب على المصارف أن تركز على المجالات التي يمكن أن تبني فيها ميزة تنافسية متميزة، وأن تجد سبلا للشراكة مع المبتكرين الجدد أو التعلم منهم.
المصادر:
1- هنا
2- هنا