كيف يتعلّم الطفل الكلام؟
التعليم واللغات >>>> اللغويات
الجواب هو: لا؛ يكتسبُ الأطفالُ اللغةَ بسرعة وسهولة ودون جهد أو تعليم رسمي، فالتعلّم يحدث تلقائياً، سواء ألقَّن الأهلُ طفلَهم اللغةَ أم لا. لكن على الرغم أنَّ الأهل أو القائمين على رعاية الطفل لا يُعلِّمون الطفلَ كيفية الكلام هم يؤدون دورًا أساسيًا في هذه المهمة من خلال التحدث مع طفلهم، فالطفلُ الذي لا يجد من يتحدث إليه لا يستطيع اكتساب اللغة؛ إذ لا بدّ من استخدام اللغة للتفاعل مع الطفل، فمثلاً، لا يمكن للطفل الذي يعتمد على اللغة التي يسمعها من التلفاز أو الراديو فقط أن يتعلم الكلام.
يتعلّمُ الطفلُ اللغةَ من خلال التفاعل، ليس فقط مع والديه وغيرهم من الكبار، بل أيضًا مع غيره من الأطفال. يكتسبُ الأطفالُ الطبيعيون ممن يَنشؤون في جوٍّ أسريٍّ طبيعي محاطين بالكلام والمحادثة باللغة المستخدمة في محيطهم، كما يَسهُل على الطفل أيضًا اكتسابُ لغتين أو أكثر في الوقت نفسه، ما دام يتفاعلُ مع المحيطين به من خلال هذه اللغات.
تساعدُ الطريقةُ الخاصة التي يخاطِب فيها العديدُ من البالغين صغارَهم في اكتساب أطفالهم للّغة، فقد أظهرت دراسات بأن "لغةَ الأطفال" التي يستخدمها الكبارُ عادةً مع الرضّع والصغار أعلى بقليل فقط من مستوى تطور لغة الطفل، مما يعينه على رفع مستوى لغته. تتكوّن لغةُ الأطفال من مفرداتٍ وجملٍ أكثرَ بساطةً من تلك المستخدمة في لغة الكبار، بأصواتها وطبقاتها المفخّمة وكثرة التكرار والأسئلة، وتساعد هذه الميزات الطفلَ على ترتيب المعاني والأصوات ونماذج الجمل المستخدمة في لغته.
متى يتعلّم الأطفال الكلام؟
ليست هناك نقطةٌ محددةٌ يتعلّم فيها الطفل الكلام، فمع نطق الطفل لأولِ كلمة ذات معنى، سيكون قد أمضى عدّة أشهر يتلاعبُ بالأصوات وطبقاتها ويربطُ الكلمات مع معانيها. يكتسب الأطفالُ اللغةَ على مراحل، كما تختلفُ سرعةُ الوصول إلى أية مرحلة من طفلٍ إلى آخر، لكنَّ ترتيبَ مراحل تعلّم الكلام، افتراضيًا، هو نفسه بين جميع الأطفال.
أُولى الأصوات التي يصدرها الطفل هي أصوات البكاء، ومع بلوغه 6 أسابيع من العمر، يبدأ الطفل بإصدار الأحرف الصوتية، بدءًا من (آااه) (إييه) (أووه). يبدأ الطفل في سن 6 شهور تقريبًا بإصدار مزيج من الأحرف الصوتية والصامتة مثل (بوو) و(دا)، إذ يلعبُ الطفل في هذه المرحلة على أصوات الكلام، ويميّز الأصواتَ الضرورية لتكوين كلمات في لغته. يسمع الأهلُ طفلَهم في هذه المرحلة يتلفظ بمزيج من الأصوات مثل (ماما) و(دادا)، ويعلنون بسعادة بأن طفلهم قد قال كلمته الأولى، رغم أن الطفل، على الأغلب، لم يربط تلك "الكلمة" التي لفظها بأي معنى.
في عمر سنة أو سنة ونصف، يبدأ الطفل فعليًا بلفظ كلماتٍ منفردة ذات معنى، وتكون هذه الكلمات دومًا كلماتٍ ذات "محتوى" مثل "بسكويت" و"جرو" و"اركض" و"انظر"، وليست كلماتٍ "وظيفية" مثل"وَ" و"الـ" التعريف و"من". ومع بلوغ الطفل السنتين، يبدأ بتكوين جُملٍ من كلمتين مثل "ركض جرو"، وبمرور الوقت يستطيع الطفل أن يُكوِّن جملًا أطول خاليةً من الكلمات الوظيفية مثل "جرو كبير ركض بسرعة". كل ما يحتاج الطفل إلى إضافته في هذه المرحلة هو الكلمات الوظيفية، وبعض أنواع الجمل كالمبني للمجهول، وأمزجة الأصوات الأكثر تعقيداً. وبدخول الطفل مرحلةَ الحضانة، يكون قد اكتسب الكمَّ الأكبر من قواعدِ اللغة وأصواتِها، وكلُّ ما عليه بعدها هو جمعُ مختلِف أنواع الجمل بطرق جديدة، وإضافةُ كلماتٍ جديدةٍ إلى مخزونه اللغوي.
لِمَ كانت طفلتي تقول "أقدام" بصورة صحيحة، ومن ثمّ تراجعت وبدأت تقول "قدمات"؟
في الواقع، لم "تتراجع" طفلتك، بل تقدمت، فعندما كانت تقول "أقدام" في مرحلة سابقة، كانت تقلّد ما تسمعه فقط، لكنها الآن تعلمت قاعدةً لجمع الكلمات، وهي أن تضيف صوت "ــات" إلى نهاية الكلمة، وهي الآن تطبِّق قاعدتها الجديدة على الكلمات جميعها، حتى تلك التي لا تنطبق عليها القاعدة، كما إنها ستفعل المثل، غالبًا، عند تعرُّفها على قاعدة جديدة، وهو دليل على أن الطفل بدأ يتجاوزُ مرحلة التقليد، وقد دخل فعلاً في مرحلة تعلّم اللغة.
كيف يمكن لطفل لا يستطيع حتى أن يربط شريط حذائه أن يتقن نظامًا معقدًا كنظام اللغة؟
رغم أن لغة الأطفال التي يستخدمها الكبارُ تساعد صغارَهم على اكتساب اللغة، يعتقدُ العديد من علماء اللغة أن هذا وحدَه لا يفسِّر كيف للرضع والأطفال أن يكتسبوا مثل هذا النظام المعقد بهذه السهولة، إنه لمن الأسهل بصورة كبيرة أن يكتسب الطفلُ اللغةَ وهو رضيع وطفل من اكتسابه إياها -لنقل- وهو في الجامعة في عمر ثمانية عشر. يعتقد الكثير من علماء اللغة حاليًا بأن دماغَ المولودِ الجديدِ مبرمجٌ على تعلم اللغة، وبأنه الطفل يولدُ مزودًا بمعرفةٍ غريزيةٍ مسبقةٍ في كثير من نواحي اللغة، هذا يعني بأنه من الطبيعي للإنسان أن يتكلم كما هو طبيعي للعصفور أن يغرّد وللعنكبوت أن ينسج شباكه، وهكذا تتشابه القدرةُ على الكلام مع القدرةِ على المشي. يُعدُّ المشي قدرةً جينية، يتعلمها الأطفال سواء إن علَّمهم إياها الكبار أم لا. وكذلك هو الكلام، يطوِّر الأطفالُ قدرتَهم على الكلام حتى لو لم يحاول مَنْ حولهم تعليمهم هذه القدرة، لهذا السبب يعتقد الكثير من علماء اللغة بأن القدرات اللغوية هي قدراتٌ جينية. يعتقد الباحثون بوجود "مرحلة حرجة" (تمتد تقريباً من مرحلة الرضاعة إلى البلوغ) لا يتطلب اكتسابُ اللغة فيها مجهودًا كبيرًا، إذ يرى هؤلاء الباحثون أنَّ التغيراتِ تحدث في بنية الدماغ خلال مرحلة البلوغ، ومن بعدها يصبح تعلُّمُ لغة جديدة أصعب بكثير.
تزايد اهتمامُ علماء اللغة باكتشاف الصفات المشتركة بين ما يقارب 5000 لغةٍ حول العالم، هذا من شأنه أن يساعدنا على تمييز المعارف اللغوية الفطرية، على سبيل المثال، من الظاهر أن اللغاتِ جميعَها تستخدمُ الحروفَ الصوتية مثل (آاه) و(إييه) و( أووه)، وهي أُولى الأصوات التي يلفظها الطفل الرضيع. يأمل اللغويون من خلال دراسةِ اللغات حول العالم بأن يتوصلوا إلى الصفات المشتركة بين اللغات كلِّها، وأن يثبتوا أنَّ هذه الصفاتِ موجودةٌ فطريًا، بشكل ما، في الدماغ البشري. إن كان صحيحًا بأن الطفل يولدُ بكَمٍّ كبيرٍ من المعرفة اللغوية الفطرية، فإن ذلك سيساعدنا على تفسير كيف لطفلٍ صغير، بدون أي تعليم وبصرف النظر عن مستوى الذكاء، أن يكتسب -بكل سرعة وسهولة- نظامًا لغويًا معقدًا إلى درجة أن لا حيوانَ آخر أو آلةً استطاعت يومًا إتقانَه.
المصدر:
هنا