هل يمكنك تخمين العدد الأكبر؟ الجزء 3
الرياضيات >>>> الرياضيات
تَرتبطُ الأُسس ارتباطًا وثيقًا بالعالم المادّي، وكذلك بالآمالِ و المخاوفِ البشريّة. فباستخدامِ الأنظمةِ التّرميزيّةِ الّتي سأناقشها أدناه، نَستطيعُ أن نكتبَ بإيجازٍ أعدادًا تَبدو الأعدادُ الأسّيّةُ تافهةً أمامها، أعدادًا أكبرَ من العدد بمقدارِ الفرقِ بينه وبين التّسعةِ؛ لكنّ هذه الأنظمةَ الجديدةَ أشدّ إبهامًا من الأعداد الأُسّيّة. يقود Douglas Hofstadter دوڠلس هوفستادر قرّاءَه إلى حافّة جُرفِ هذه الأنظمةِ في مقالهِ On Number Numbness عن الخَدَرِ العدديّ، ثمّ يقول جازمًا: لو كنّا لنتابعَ نِقاشنا هذا لجزءٍ واحد من زليون جزءٍ من الثّانية، لوجدنا أنفسنا وسط نظريّةِ التّوابع التّعاوديّة والتّعقيدِ الخوارزميّ، ولضاع النّقاشُ من فرط التّجريد، لذلكَ لنتوقّف هُنا.
لكنّ إِنهاءَ النقاشِ لا يعني التّخلي عن مسابقةِ العدد الأكبرِ فحسبُ، بل عنْ أيّ أملٍ في فهمِ كيفَ تُؤدّي نماذجُ أقوى إلى أعدادٍ أكبرَ. وهنا نصل إلى بدايةِ القرنِ العشرين حين سعى رياضيّوا المدرسة الشّكليّة إلى استبدال أقسامِ الرّياضيّاتِ جميعِها بقواعدَ بديهيّةٍ دقيقةٍ جدًّا تعتمد مبدأ الفرضيّة. وقد كانَ أحدُ التّساؤلات الرّئيسيّة لدى الشّكليّين معنى عبارةِ قابل للحساب، أو بكلماتٍ أخرى، كيف يُمكننا معرفةُ ما إذا كان ممكنًا سردُ عناصر متتاليةٍ عدديّةٍ عن طريق إجراءٍ آليٍّ محدَّدٍ؟ اعتقدَ بعضُ الرياضيّينَ أنّ معنى العبارة قابل للحساب مطابقٌ للمفهوم التّقنيّ primitive recursive تعاوديّ أوّليّ. لكن في عامِ 1928 دَحضَهم ويلهلم آكرمن Wilhelm Ackermann عن طريقِ بناءِ متتاليةٍ عدديّةٍ قابلةٍ للحساب وضوحًا، لكنّها تنمو نموًّا أشدّ تسارعًا من أن تكون تعاوديّةً أوّليّةً.
تدورُ فكرةُ آكرمن حولَ إيجاد موكبٍ أو رتلٍ غيرِ منتهٍ من العمليّاتِ الحسابيّةِ الّتي كلٌّ منها أقوى من سابقتها. يأَتي الجمعُ أوّلًا، ثم الضّربُ الّذي نستطيعُ اعتبارهُ جمعًا متكرّرًا، على سبيل المثال 3 × 5 تعني 5 مضافةً إلى نفسها 3 مرّاتٍ أو 5+5+5. وتأتي ثالثًا القوّة، أي الرّفعُ إلى أسٍّ ما، ونستطيعُ اعتبار هذه العمليّة ضربًا متكرّرًا . ويأتي رابعًا ... ماذا؟ حسنٌ، يتعيّن علينا الآنَ أن نبتكرَ عمليّةً غريبةً جديدةً لتكريرِ القوّة.
سمّاها الرّياضيُّ Rudy Rucker رودي ركر Tetration القوّةَ الرّباعيّة. على سبيل المثالِ، تعني العبارة 5 مرفوعةٌ رباعيًّا إلى 3 أن نرفعَ 5 للأُسِّ 5 ثلاث مرّاتٍ أي ، وهوَ عددٌ يتألّف من 2،185 خانةً. و بإمكاننا المتابعة. يأتي خامسًا القوّة الرّباعيّة المكرّرة؛ هل نسمّيها Pentation القوّةَ الخماسيّة؟! ويأتي سادسًا القوّة الخماسيّة المكرّرة أو ما يمكن تسميتهُ Hexation القوّة السّداسيّة. وتَستمرُّ هذهِ العمليّاتُ استمرارًا لانهائيًّا، ترتكز فيه كلُّ عمليّةٍ على سابقتها إلى أن تنتج أعدادًا تُحلّق في سماء الأعدادِ الكبيرةِ.
وإذا ما عبّرتْ كلُّ عمليةٍ عن نكهةِ حلوىً معيّنةٍ، فَستكونُ متتالية آكرمن حزمةً من عيّناتِ الحلوى تَجمعُ بين جميعِ النّكهاتِ، قطعةً واحدةً من كلّ نكهةٍ. سيكونُ الحدّ الأَولُ في المتتاليةِ 1+1=2، وسيكون الحدّ الثّاني 2 × 2=4، أمّا الثّالث فسيكون 3 مرفوعةً للأسّ 3 ما يساوي 27. من الواضح أنّ هذه الأعداد ليست كبيرةً، لكن هلّا نظرنا إلى الحدّ الرابع؟ 4 مرفوعةٌ رباعيًّا للأسّ 4، أي ، يتألّف هذا العدد من خانةٍ. وسيكون الحدّ الخامس 5 مرفوعةً خماسيًّا للأسّ 5، أي حيث أنّ عدد الخمسات في الأسّ المكدَّس يساوي 5 مرفوعةً رباعيًّا للأسّ 5. هذا العدد أهوَلُ بكثيرٍ من أن يمكنَ التّعبيرُ عنه بأيٍّ من الصّيغ العاديّة، ومن هنا فصاعدًا سَتصبحُ الأَعداد أكبرَ فأكبر.
وباستخدامِ متتالية آكرمن نَستطيعُ أن نهزمَ منافسِينا الجاهلينَ في مسابقةِ العددِ الأَكبرِ، لكن علينا أن نتوخّى الحذر، إذ توجد تعاريفُ عِدّةٌ لمتتاليةِ آكرمن، وليست كلّها متطابقةً، ولذلك هذا ما قد أكتبه ضمن الخمسَ عشرةَ ثانيةً لأتجنّب الوقوع في أيّ لَبْسٍ:
A(111)—Ackermann seq—A(1)=1+1، A(2)=2×2، A(3)=33، etc
ولمتتاليةِ آكرمن عديدٌ من التّطبيقاتِ على عكس ما قد نعتقد. في إحدى مسائل نظريّة رامزي Ramsey theory، يُبحَث عن أقلّ عددٍ ممكنٍ لأبعاد مكعّبٍ فائقٍ يحقّق خاصّيّةً محدّدةً. يُعتقَد أَنّ عدد الأبعاد الصّحيح 6 أبعادٍ، لكن ليس كلّ اعتقادٍ مبرهنًا، إذ إنّ أقلّ عدد أبعادٍ استطاعَ أيُّ أحدٍ على الإطلاق إثباتَ صحّته كانَ كبيرًا جدًّا لدرجةِ أنّه لا يمكن التّعبير عَنهُ إلّا بالطّرائقِ الحسابيّةِ الغريبةِ الّتي ترتكز عليها متتالية آكرمن. ولقد أُدرِج هذا العدد في موسوعة ڠينيس للأرقام القياسيّة كأكبر رقمٍ استُخدِم في برهانٍ رياضيٍّ، وكان المنافس السّابقُ لهُ عددَ سكيوز Skewes الّذي يبلغ قرابةَ ، والّذي ظَهرَ في دراسةِ كيفيّة توزّع الأعداد الأَوّليّة، وقد سخرَ الرّياضيّ جي إتش هاردي G. H. Hardy من كونه -على حدّ تعبيره- أكبرَ عددٍ لم يخدم أيّ غرضٍ محددٍّ في الرّياضيّات. ويلعب موكبُ آكرمن متسارعُ النّموّ دورًا في علوم الحاسوب أيضًا، فمثلًا: في تحليل بنية بياناتٍ تُدعى Union-Find، يُضرَب أحدُ الحدود بمقلوب متتالية آكرمن، وهو -من أجل كلّ عددٍ صحيحٍ X- أصغرُ عددٍ N يكون عددُ آكرمن عندَه أكبرَ من X. يزداد المقلوب ببطءٍ مماثلٍ لسرعة تزايد متتالية آكرمن الأصليّة؛ و في جميع التّطبيقات العمليّة يبلغُ المقلوب 4 كحدٍّ أقصى.
بالرّغم من أنّ أعداد آكرمن كبيرةٌ جدًّا، ما تزال غير كبيرةٍ بما فيه الكفايةُ، فالبحثُ عن الأعدادِ الأكبرِ يرجعُ بنا إلى الشّكليّين، فبعد أن أثبت آكرمن أنّ تعبير التّعاوديّ الأوّليّ ليس ما نعنيه بعبارة قابل للحساب، بقي السّؤال عن معنى هذا العبارة مطروحًا دون ثمّة إجابة حتّى عام 1936، إذ أجاب عنه ألونزو چرچ Alonzo Church وآلن تورنڠ Alan Turing كلٌّ على حدةٍ. ففي حين استخدم چرچ في إجابته شكليّةً منطقيّةً تُدعى حسابَ لامدا Lambda Calculus، استخدم تورنڠ في إجابته آلة الحوسبة المثاليّة -آلةَ تورنڠ Turing Machine- المكافئةَ جوهريًّا لأجهزةِ كومباك Compaq، وديل Dell، وماكنتوش Macintosh، وكري Cray في يومنا هذا. تشتهر ورقةُ تورنڠ On Computable Numbers عن الأعداد القابلة للحساب الّتي تصف آلتَه بأنّها الوثيقةُ التّأسيسيّةُ لعلم الحاسوب.
يقول تورنڠ: "عادةً ما تُنجَزُ الحوسبة عن طريقِ كتابةِ رموزِ معيّنةٍ على ورقةٍ، ويمكن أن نفترض أنّ هذه الورقة مقسّمةٌ إلى مربّعاتٍ كما في الدّفاتر الّتي يستخدمها الأطفال للحساب. أحيانًا ما تُستخدم في الحساب الابتدائيّ ميزةُ ثنائيّة أبعاد الورقة، لكن يمكن التّخلّي عن استخدامها، وأعتقد أنّه سيُتّفَق على أنّ استخدامَها لا يرتبط بالحساب ارتباطًا جوهريًّا. لذلك فإني أفترض أنّ الحسابَ يُجرى على ورقٍ أحاديِّ البعدِ، على شكل شريطٍ مُقسّمٍ إلى مربّعاتٍ"
ويسهب تورنڠ في توصيف آلته مستخدمًا المفاهيم الأساسيّة بمنطقٍ مبتكَرٍ، فيقول: ويمتدُّ الشّريط إلى اللّانهايةِ من كلا الطّرفينِ، ذلكَ بأنَّ الآلة النّظريّة لا تتقيّد بالحدود المادّية للموارد. وعلى كل مربعٍ من الشّريط هنالك رمزٌ مكتوبٌ مثلُ الواحد والصّفر في ذواكر الحواسيبِ الحديثةِ، لكن كيفَ تُعالَج هذه الرّموز؟ تحتوي الآلة على ما يسمّى رأسَ الشّريطِ، وهو رأسٌ يمرّ ذهابًا وإيابًا على طول الشريط ويفحصُ كُلّ مربّعٍ على حدةٍ، ويكتبُ الرّموزَ ويمحوها حَسَبَ قواعدَ محدّدةٍ. هذه القواعد هي برنامج رأس الشّريط، فبتغييرِها يتغيّر ما يفعله رأس الشريط.
كانت فكرة تورنڠ الرّائعة أنّنا نستطيع أن نبرمجَ رأس الشّريط لتنفيذ أيِّ إجراءٍ حسابيٍّ. تَستطيعُ آلة تورنڠ أن تجمعَ وتضربَ وتستخرجَ الجذورَ التّكعيبيّةَ وتفرزَ وتبحثَ وتنجزَ التّدقيقَ الإملائيَّ والتّحليلَ وتلعبَ لعبةَ إكس-أو وتنتِجَ متتالية آكرمن. ونستطيعُ أن نشغّل نظام ويندوز على آلة تورنڠ إن استطعنا تمثيل دخل لوحة المفاتيح وخرج الشّاشة وغيرها من البيانات كرموزٍ على الشّريط. لكن لدينا مشكلةٌ، إذ ما إنْ نُطلقَ الرّأسَ على سلسلةٍ من الرّموز لن يتوقّف حتّى يصل إلى نتيجةٍ، قد يتوقّف في نهاية المطاف ونحصل على نتيجتنا، ولكن من الممكنِ أيضًا أنْ يستمرَّ بالعمل إلى الأبدِ، مثل مبرمجٍ أسطوريٍّ بقيَ عالقًا في الحمّامِ لأنّ التّعليمات على عبوة الشّامبو تقول: "ارغُ، اشطف، كرّر".
إن كانت الآلةُ ستستمرّ بالعملِ إلى الأبدِ، سيكونُ منِ المحبّذِ معرفةُ ذلكَ مسبقًا، لكي لا نَبقى منتظرين النّهاية إلى الأبدِ. لكن كيف نستطيعُ أن نحدّدَ، بمدّة زمنيّةٍ منتهيةٍ، ما إذا كانَ شىءٌ ما سيستمرّ إلى اللّانهاية؟ وإذا ما تحدّيتُ صديقي بأنّ ساعتي ستَعملُ إلى الأبد، متى أستطيعُ إعلانَ انتصاري؟ رُبّما يوجدُ برنامجٌ خارقٌ ما يستطيعُ فحص البرامج الأخرى ويخبرنا ما إذا كانت ستتوقّف يومًا عن العمل.
كلّا، فقد أَثبتَ تورنڠ بأنّه لا يمكن حلُّ مسألة التّوقفِ Halting Problem باستخدام آلته، وإثباتُه هذا مثالٌ جميلٌ للمرجعيّةِ الذّاتيةِ؛ إذ إنّه يقولب حجّةً قديمةً تقول إنّهُ لا يمكن لامرئٍ الحصولُ على تأمّلٍ ذاتيٍّ كاملٍ، والحُجّةُ أنّه إن استطاع ذلك لاستطاع أيضًا تحديدَ ما كان سيفعلهُ بعدَ عشرِ ثوانٍ من الآن والقيامَ بشيءٍ مختلفٍ. تخيّلَ تورنڠ وجود آلةٍ خاصّةٍ تستطيعُ حلَّ مسألةِ التّوقّفِ. ثم استعرض كيفَ تحلّلُ هذه الآلةُ نفسها على نحوٍ يجعلها تتوّقفُ إن كانت ستستمرّ بالعمل إلى الأبدِ، وتعملُ إلى الأَبدِ إن كانت ستتوقّف. مثلها مثل كلبٍ تمكّن أخيرًا من عضّ ذيله بعد ملاحقته، وأخذ يلتهمُ نَفسهُ. وهكذا تتلاشى الآلةُ الأسطوريّةُ في لظىً من التّناقضِ. وهذا مثالٌ لما لا تكتبه في ورقةٍ بحثيّةٍ.
المصدر: