لماذا نقتلُ بعضنا؟
منوعات علمية >>>> منوعات
توصلتْ دراسةٌ مثيرةٌ للجدل -نُشِرَت قبل سنتين- إلى أنّ الرّغبةَ في إثارةِ الدّماء في الحرب حتى القتلِ تَعودُ إلى أجدادنا الأوليين منذ ملايين السّنين.
وبذلك؛ عادت هذه الدراسة إلى شجرة عائلتنا لتغطيةِ جذورِ العنفِ القاتلِ عبر دراسةِ أكثر من ألف نوعٍ من الثدييات.
وفي هذا الصدد؛ يقولُ العلماءُ عبر المراقبةِ وجمعِ المعلومات أنّ البشرَ ليسوا الوحيدين الذين يقتلون أفرادَ نوعِهم؛ إذ رُصِدَت عملياتُ قتلٍ لأنواعٍ عديدةٍ من الحيوانات؛ بدءًا بالشمبانزي والذّئاب وانتهاءً بحيواناتِ المرموط (نوع من السناجب كبيرة الحجم).
وللإجابة عن السّؤال فيما إذا كان هذا السلوك قد طُوِِّرَ في النوع نفسِه أم توارُث عن السَّلف التطوّري للنوع؛ نقّى عالِمُ الأحياءِ التّطورية جوزيه ماريا جوميز José Maria Gómez وفريقه خلال عامَين عقودًا من البحث العلمي، وذلك لإنشاء قاعدة بيانات تُوضّح كيفيّة موت 1024 نوع من الثّدييات؛ متضمِّنةً النّسبة من النوع التي قُتِلت من عضوِ النّوع نفسه، وقد شملت الدراسة قرابة 80% من عوائل الثدييات.
نتائج الدراسة
خَلُصَت الدّراسة إلى أنّ 40% من الأنواع المدروسة قد مارسَتْ عنفًا قاتلًا بطريقةٍ ما،
ووجد الباحثون أنّ بعضَ الأنواع مثل الخفافيش والحيتان تقتلُ أحدَ أعضائِها بصعوبة، ومن جهة أخرى؛ وُجِد أنّ سناجب الأرضِ وزبابات الأشجار- نوع من القوارض- تفعل هذا على نحوٍ كبير نسبيّاً، وأمّا الحيوانات التي تعيشُ في مجموعاتٍ وتدافعُ عن مناطقِها مثل الذئاب والشمبانزي فـتميلُ لكونها أكثر عنفًا.
وإحصائيّاً؛ كلّما كان السّلف القريبُ عنيفًا، كلّما كانت احتمالية كون نوعكَ عنيفًا أكثر.
بالنّسبة إلى اللإنسان:
باستخدامِ قاعدةِ البياناتِ هذه؛ كان غوميز وفريقه قادرين على التّنبؤ بنسبةِ العنفِ القاتلِ في نوعٍ ما؛ عبر البحثِ عن أشياء مُشتركة بين الأنواع التي لها أسلاف مشتركة وتوظيفها من أجل تخمينِ مدى عنفِ هذه الأنواع وبناءِ سجل تاريخيّ لِعُنفِ السّلسلة، وهذا ما فعلوه حين استخدموها لمعرفة هذه النّسبة لدى البشر الأوليين، فـوَجَدوا أنّ العنفَ له جذورٌ عميقةٌ في خط تطوّر القِرَدة والسّعادين والإنسان العاقل، وإن كان ذلك بنسبٍ مُتفاوتة.
توصّلت الدراسةُ إلى أنّ ما يُقاربُ 4.5% من حالات وفاة الشمبانزي مسجّلة على أنّها حدثت من قبل شمبانزي آخر، في حين كانت قردة البونوبو مسؤولة عن 0.68% من حالات وفاة أفرادِ نوعِهم فقط، وتوقّعوا أن تكونَ النّسبةُ 2% لدى البشر.
للتأكّد من صحّة هذه النّسب؛ راجعَ فريقُ البحثِ الأدبَ العلميّ بطريقةٍ عميقةٍ من أجل توثيق حالاتِ العنفِ القاتل بين البشر من فترة ما قبل التاريخ وحتَّى يومنا هذا، ثم دمجوا بياناتٍ من حفريات معمارية وسجلّات تاريخية وإحصائيات وطنية حديثة ومعلوماتٍ من الإثنوغرافيا (الجغرافيا الإثنية) لِمعرفة عددِ البشرِ الذين قُتِلوا من قبل بشرٍ آخرين في أزمنةٍ ومجتمعات مختلفة.
وفي الزمن المُتراوح بين 50 و10 آلاف عام من الآن، وعندما كان الإنسانُ يعيشُ في مجموعاتٍ صغيرة- مرحلة الصيد وجمع الثمار-؛ كانت نسبةُ القتل مطابقة إحصائيًا للنسبة المتوقعة من فريق البحث والتي كانت 2%.
ولاحقًا عندما أَسّست مجموعاتُ البشرِ دُولًا وأنظمة؛ ارتفعت نسبةُ العنف القاتل؛ إذ كانت 12% في أوراسيا في العصور الوسطى.
ولكن عندما طبّقت الدّولُ الصّناعيةُ في العصر الحديث دورَ القانونِ؛ انخفضت هذه النّسبة عمَّا كانت عليه في عصر أسلافنا الأوليّين، فـأصبحت 1.3%؛ ممّا يبيّن أن التطوّر ليس شيئًا لا مفرّ مِنه؛ فَالثّقافة تستطيع تعديلَ مَيلِنا للقتل.
آراء المجتمع العلمي بخصوص الدّراسة:
يَعتقدُ الأنثروبولوجي الأميركي دوغلاس فري (Douglas Fry) أنّ الدراسةَ مُتطوّرة ومُدارة بدقّةٍ شديدة، وتُظهِرُ عيوبًا في الرأي القائل أنّ ماضي البشر وطبيعتهم عنيفون بشدّة، فـنسبة الـ 2% أقلّ بكثيرٍ من تقديرٍ آخرٍ اقترحَه أحدُ الباحثين من جامعة هارفارد (اقترح أن تكون 15% في مرحلة الجمع وصيد الثمار).
وعلى الرَّغم من اعتقادِ الأنثروبولوجية الأميركية بولي ويزنر (Polly Wiessner) أنّ قاعدةَ بياناتِ العُنف القاتلِ بين الثدييات مساهمةٌ مثيرةٌ للإعجاب؛ ولكنّها تعتقد أن البيانات عن البشر ضعيفةٌ جدًّا؛ إذ برّرت رأيها بأنّ معلوماتنا عن فترة ما قبل التاريخ ضئيلةٌ جدًّا، فالدّراسة تُعطي تصوّرات عن ثقافات معزولة من خلال دراسةِ بعثات التبشير والتنقيب في ساحات معارك تاريخية، في حين أنَّ ما نملكه من معدلات جرائم القتل الحديثة أكبر بكثير؛ كلاهما لديه تحيّزات وهوامش خطأ مختلفة.
وافقَ ريتشارد رانجام (Richard Wrangham)- وهو أنثروبولوجي أميركي مُتخصصٌ في دراسةِ العلاقةِ التّطوّرية بين الشمبانزي والإنسان- على مجموعة البيانات؛ إذ رأى أنّها جديدة وكبيرة إلى حدّ مذهل، لكنها تفتقرُ إلى سياقٍ حاسم، فـليستْ كل أساليب العنفُ القاتل متشابهة؛ إذ إنّ نسبةً كبيرةً من أرقامِ القتلى لدى الشمبانزي آتية من وأدِ الأطفالِ الذي يُعدُّ شائعًا لديهم، في حين يميلُ البشر إلى قتل البالغين منهم.
وقد أضافَ أنّه لِرسم استنتاجاتٍ عن التّاريخ التّطوّري للعنف؛ لا بدّ أن تُؤخذَ عوامل أخرى غير الأرقامِ بعين الحسبان.
رد مدير الدراسة:
اتفقَ غوميز مع القائلين إنّ عدمَ إمكانيةِ التّفريق بين أنواعِ العنفِ القاتلِ هو أكبرُ عائقٍ أمام عملهم، وبرّر ذلك بعدمِ وجودِ قدرٍ كافٍ من المعلومات لحساب نسبِ العنف القاتل لدى البشر.
وأخيراً؛ تُعطينا نتيجةَ الدراسة عاملاً بيولوجيًّا للعنف البشريّ، لكنَّ هذا لا يعني بالضرورة أنّه العاملُ الوحيد، وحسب غوميز؛ هذا العاملُ البيولوجيّ ليس جينيًّا فحسب، وسببه -على الأغلب- الدافع البيئيّ للبقاء؛ فالسّلوك الاجتماعي والنزعة القَبَليّة صفتان سلوكيتان مشتركتان مع أقارب البشر الأوليين، وتَبيّنَ أنّهما تؤثران في نسبة العنف القاتل لدى البشر.
المصادر:
1. هنا;
2. هنا;