الأسرار وراء زلات اللسان
التعليم واللغات >>>> اللغويات
تهدف (نوزاري) للإجابة عن هذه الأسئلة بصفتها مؤسِّسةَ مختبر الإنتاج اللغوي والتحكم التنفيذي في جامعة (جونز هوبكنز) ورئيسته؛ إذ تبحث في العمليات المعرفية التي ترصد الكلام وتتحكم فيه، ولأن التحكم المعرفي في إنتاج اللغة حقلٌ غير مدروس دراسة كافية فإن الباحثة تأمل أن يساعد عملُها هذا في الوصول إلى اكتشافات جديدة.
عندما يختلّ الكلام
يركز أحدُ فروع أبحاث (نوزاري) على كيفية اكتشاف أخطائنا في الكلام؛ إذ يعتقد الباحثون أن آلياتِ الدماغ المشاركةِ في فهم اللغة (نظام الفهم) مسؤولةٌ عن التعرف إلى زلات اللسان وتصحيحها، وفي حين تعترف (نوزاري) بدور هذا الفهم، تشير دراستُها إلى أن آليات الدماغ المشارِكة في توليد الكلام (نظام إنتاج اللغة) تؤدي دورًا رئيسًا أيضًا في هذه العملية، وعرضت هي وزملاؤها رسومات بالأبيض والأسود على أشخاص سبق وعانوا فقدان القدرة على الكلام، أو ضعفًا في اللغة نتيجة سكتة دماغية، وقد سجل الباحثون أخطاء المشاركين وما إذا كانوا قادرين على ضبط تلك الأخطاء وتصحيحها فيما بعد. وجد الباحثون أن قدرة كل مشارك على اكتشاف أخطائه موجودة بالفعل وقد تنبؤوا بها من خلال مهارات الإنتاج اللغوية وليس عن طريق مهارات الفهم، وتقول (نوزاري): "لا شك في أن جزءًا من المراقبة الذاتية يحدث من خلال الفهم، ولكن هناك آلياتٍ داخليةً في نظام الإنتاج نفسه تساعد فعليًا في اكتشاف الأخطاء الخاصة به وإصلاحها".
وفي الآونة الأخيرة، وسّعت (نوزاري) وزميلها (ريك هانلي)، في جامعة (إسكس) في إنجلترا، تلك النظرية لتشمل الأطفال، وقد اختبر فريق البحث أشخاصًا تتراوح أعمارهم بين 5 و8 سنوات من خلال نشاط يسمى "الحيوانات المتحركة"؛ إذ شاهد الأطفال رسومًا كرتونية تضم تسعة أنواع مألوفة من الحيوانات ومن ثم طُلب منهم وصف الأحداث التي رأوها؛ لقد كان الأطفال الأكبر سنًا أفضل في التقاطِ الأخطاء الدلالية التي ارتكبوها وتصحيحِها، مثل مناداة كلب بقطة.
وقاست (نوزاري) و(هانلي) وفريقهما نضجَ نظام إنتاج اللغة لكل طفل، وذلك باستخدام مهمة منفصلة طلبوا فيها من الأطفال تسميةَ ما يظهر في الصور؛ إذ يحدِدُّ كل طفل أسماءَ الأشياء في سلسلة من الرسومات بالأبيض والأسود، ومن خلال حساب الأخطاء الدلالية للأطفال (أي المتعلقة بالمعنى) والأخطاء الصوتية (أي المتعلقة باللفظ)، تمكن الباحثون من تقدير قوة نظام إنتاج اللغة لدى كل طفل باستخدام النمذجة الحاسوبية، وأظهروا أن هذه القوة كانت مؤشرًا رئيسًا في كيفية اكتشاف الأطفال لأخطائهم في نشاط "الحيوانات المتحركة"، وهي نتيجة تثبت ما توصلت إليه (نوزاري) وزملاؤها لدى الأفراد الذين عانوا فقدان القدرة على الكلام، ما يضيف دعمًا إلى النظرية القائلة بأن نظام الإنتاج اللغوي لديه قدرة ذاتية على اكتشاف الزلات اللفظية لدى الأطفال، وكذلك البالغين.
ذئب في ثياب حمل
تستطيع (نوزاري) تحديد اللحظة التي أصبحت مهتمة فيها بأخطاء الكلام، فقد كان ذلك بعد حصولها على شهادة الطب من جامعة طهران للعلوم الطبية في بلدها إيران عام 2005 ، وذهبت بعدها إلى لندن لإجراء دراسة على الأشخاص المصابين بمرض ألزهايمر، وفي اختبار الفحص الروتيني للخرف، عُرضت صورة خروف sheep على أحد المشاركين وطُلب منه تسمية الكائن، فقال في المرة الأولى wolf "ذئب"، ثم حاول مرة أخرى وقال steep "منحدر"، وقال أخيرًا sleep "نوم". تتذكر (نوزاري) أنها كانت منبهرة، لأن هذه لم تكن مجرد أخطاء عشوائية برأيها، فهناك ارتباط بين "الذئب" و"الأغنام" دلاليًا -أي من ناحية مجال المعنى-، وارتباط بين الكلمتين "منحدر" steep و"نوم" sleep صوتيًا، وكلمة "نوم" لها ارتباط بكل من المعنى والصوت، لقد أثارت تلك الظاهرة فضول (نوزاري) وبدأت بعدها بقراءة كل شيء عن اللغة.
ضحايا السكتة الدماغية هؤلاء هم من حفّز (نوزاري) في أثناء دراستها لعمليات المراقبة والتحكم التي تسمح للناس بإنتاج اللغة وفهمها، وهي تأمل أن يؤدي بحثها إلى طرائق جديدة لاستعادة اللغة لدى أولئك الذين فقدوها، وتضيف أيضًا: ”من أكثر ما أراه مكافأة لي في عملي هو العمل مع المشاركين الذين يعانون تلفًا في الدماغ، فلا يوجد شيء أكثر إلهامًا من رؤية الجهد والعمل الشاقين اللذين يبذلونهما في استعادة الوظيفة المفقودة بعد السكتة الدماغية".
في أحد المشاريع التي ضمت مشاركين من مركز (سنايدر) لدعم المصابين بعدم القدرة على الكلام في بالتيمور، ألقت (نوزاري) وزملاؤها نظرة جديدة على كيفية إعادة استخدام الكلمات عند الأشخاص الذين أصيبوا بالسكتة. يُدرَّسُ هؤلاء المرضى عادة الكلمات المنظمة في الموضوعات الدلالية، مثل: تعلم الفواكه في جلسة واحدة، وأسماء الحيوانات في أخرى، لكننا جميعًا، مع فقدان القدرة على الكلام أو بدونه، أكثرُ ميلًا إلى خلط الكلمات التي تشبه بعضها بعضًا. تقول (نوزاري): "إذا زلَّ لسانك، فاحتمال أن تخلط الفاكهة مع فاكهة أخرى أكبر من احتمال الخلط بين الفاكهة والحيوان"، وتتوقع (نوزاري) أن العلاج اللغوي الذي يُجرى بواسطة مواضيعَ دلالية قد يكون أقل فاعلية من العلاج الذي يعيد استخدام الكلمات في مجموعات غير مرتبطة بعضها ببعض.
ولاختبار هذه الفكرة، أجرت هي وزملاؤها دراسة تجريبية صغيرة مع شخصين كانا مصابين بعدم القدرة على الكلام بعد سكتة دماغية، وشارك كل منهما في ست دورات تدريبية للتعرف إلى أسماء الأشياء إما باستخدام كلمات رُتِّبت ضمن مجموعات مرتبطة دلاليًا وإما في مجموعات غير مترابطة. في حين أن تجميع الكلمات حسب الموضوع ساعد أحد المشاركين على تذكرها تذكرًا أفضل على المدى القصير، احتفظ المشاركان كلاهما احتفاظًا أفضل على المدى الطويل بالكلمات التي تعلماها في مجموعات غير مرتبطة، وقدمت (نوزاري) وزملاؤها النتائج في الاجتماع السنوي لعام 2017 لأكاديمية (أفيسيا).
ويمكن أن يكون للنتائج أيضًا آثارٌ في تعليم اللغة الثانية، فقد انطوت إحدى الدراسات التي أجرتها (نوزاري) والدكتورة (بوني برينينج) وزميلتهن في جامعة (جونز هوبكنز) (بريندا راب)، على تعليم أشخاص بالغين سليمين عصبيًا لغةً اصطناعية، وأظهرت الباحثات أن المشاركين كانوا أفضل في تعلم التسميات الجديدة للأشياء إذا دُرِّبوا على مجموعات غير مرتبطة دلاليًا.
وفي الآونة الأخيرة، تكمل (نوزاري) ومديرة مختبرها )جيسا سال( نسخة عن تجربة التدريب اللغوي بين تلاميذ مدرسة في بالتيمور، حيث درَّست (سال) مفرداتٍ فرنسيةً، مرتبة في مجموعات مرتبطة أو غير مرتبطة، لتلاميذ أعمارهم بين 7 و8 سنوات وذلك على مدى عدة أسابيع، وقد عاودت اختبار الطلاب لترى مدى تذكرهم للكلمات بعد ثلاثة أسابيع وبعد ستة أسابيع، وتشير النتائج حتى الآن إلى أن الأطفال أيضًا يتعلمون الكلمات تعلمًا أفضل عندما يدرسونها في مجموعات غير مرتبطة؛ كما تقول (نوزاري)، وتضيف: "من الصعب تعلم شيء ما عند تقديمه مع أشياء مشابهة. قد تكون صعوبة التعلم في بعض الأحيان أمرًا جيدًا لأنك تبذل المزيد من الجهد للفهم، لكن الصعوبة غير مرغوب فيها إذا كنت لا تستطيع التغلب عليها". وفي حين أن هذه النتائج أولية، تأمل (نوزاري) أن مثل هذه الأبحاث ستساعد في تحسين تعليم اللغة، ما يؤدي إلى نتائجَ تعليميةٍ أفضل لكل من الطلاب والأشخاص الذين يعانون عجزًا لغويًا.
المصدر:
هنا