فجر يوم جديد في الكيمياء - أداةٌ جديدةٌ في جَعبتنا للكشف عن بِنية الجزيئات
الكيمياء والصيدلة >>>> كيمياء
"البنية تتبع الوظيفة، والوظيفة تفرض البنية" مقولة للمعماري Frank Lioyd Wright، وتنطبق بكل سهولة على العلوم الجزيئيّة كالبيولوجيا والكيمياء، فالبِنية تفرض الطريقة التي تتصرف بها الجزيئات، والبِنية هي الحاكم الرئيس لعالم الكيمياء.
تُستخدَم تقنيتان أساسيتان لتحديد بِنية الجزيئات الصغيرة كالأدوية والهرمونات والفيتامينات؛ وهما دراسة البلورات بالأشعة السينية وطيف الرنين المغناطيسي النووي، ولكنْ لهذه الطرائق حدودُها.
وفي منتصف تشرين الأول "أكتوبر" من عام 2018؛ أضيفت أداة جديدة إلى هذه التقنيات قادرة على تحديد أشكال الجزيئات العضوية بدقة، إذ كانت هذه التقنية تُستخدَم عادةً لدراسة البروتينات ذاتِ البِنية الأضخم. وتستطيع هذه التقنية العملَ مع آثار من العينة المدروسة بسهولةٍ وسرعةٍ فائقتَين، فحقيقةُ أنْ نكونَ قادرين على استنباط هذه البِنى من عيّنات أصغر بملايين المرات من "ذرة غبار" هي فكرة جميلة كما وصفها الكيميائي Carolym Bertozzi من جامعة ستانفورد وعدّها فجرَ يومٍ جديدٍ في الكيمياء.
ويتمثّلُ المعيار الذهبي القائم منذ زمن طويل لتحديد البِنى الجزيئية في تقنيةِ دراسةِ البلورات بالأشعة السينية X-ray Crystallography؛ إذ تُطلق فيها حزمةٌ من الأشعة السينية على بلورة نقية تحتوي ملايين النسخ من الجزيء نفسِه تصطف في اتجاه واحد. ويفسّر الباحثون النمطَ الذي ترتدُّ به هذه الأشعة عن البلورة، ويستطيع العلماء تحديدَ موضع كلّ ذرة في الجزيء، وبذلك تُستنتَج بِنية الجزيء الكلية. وتصل دقة هذه التقنية إلى أقل من 0.1 نانومتر، أي قرابة حجم ذرة الكبريت، ولكنّها بحاجة إلى بلورة كبيرة نسبيًّا للحصول على نتائج موثوقة، وإنَّ الحصول على بلورات بهذا الحجم ليس بالعملية السهلة؛ إذ تمثّل عنق الزجاجة لهذهِ التقنية، فقد يستغرق الحصول على البلورات المناسبة أسابيعَ وشهورًا وربّما سنين.
وأمّا الطريقة التقليدية الأخرى؛ مطيافية الرنين المغناطيسي النووي Nuclear Magnetic Resonance (NMR) spectroscopy؛ فهي لا تتطلب تحضير بلورات المركب الكيميائي، فهنا تُحدَّد البِنية عن طريق دراسة الطيف الناتج عن خلق اضطراب في الطبيعة المغناطيسية لنوى الذرات في الجزيء، ثم تحديد البنية بالاعتماد على تصرف الذرات والذي يختلف وفقاً للذرات المجاورة، ولكنّها بحاجةٍ إلى كمية لا بأس بها من العينة للتحليل، ولمّا كانت طريقةً غير مباشرة فقد تحدث العديد من الأخطاء في أثناء تحديد بنية الجزيئات الكبيرة؛ كالجزيئات الدوائية.
والتقنية الجديدة التي أنارت هذا اليوم الجديد هي انعراج الإلكترونات، إذ تُطلق حزمة من الإلكترونات عبر بلورة؛ كما في دراسة البلورات الأشعة السينية؛ وتُحدَّدُ البنية من أنماط الانعراج، وقد كانت هذه التقنية مفيدة على وجه الخصوص في دراسة نوع من البروتينات المتوضعة في الغشاء الخلوي. وبُنيت فكرتها الأساسية على تحضير ما يشبه صفيحة ثنائية الأبعاد من البروتينات المتبلورة لتحليلها، ولكن هذه البروتينات تكدست في عدة طبقات، فعوضًا عن الخوض في تحضير بلورات مثالية للتحليل؛ عدّل فريق البحث التقنية، إذ أطلقوا الإلكترونات على البلورة وهي تدور بدلًا من إسقاط الإلكترونات من جهة واحدة على بلورة ثابتة، فحصلوا على ما يبدو أنَّه تصوير مقطعي محوسب للجزيئات molecular computerized tomography scan، ما سمح بالحصول على بنى الجزيئات من عينات بلورية ذات حجمٍ يعادل أجزاء من المليار من تلك المستخدمة في تقنية دراسة البلورات بالأشعة السينية، ومكّنت هذه التقنية من تحديد بنية مركبات لم تُبلوَر مُسبقًا، وحتّى تحديد بنية المركبات في مزيج.
ولسلاسة التعامل مع هذه التقنية؛ فقد تكون قادرة على إحداث ثورة في العالم البحثي وخارجه، فالشركات الصيدلانية تصنع تشكيلة هائلة من المركبات البلورية على أمل أنّ البحث فيها سيؤدي إلى إيجاد أدوية جديدة. ولكن ثلث أو ربع هذه المركبات فقط تشكّل بلورات كبيرة كفاية للتحليل بواسطة تقنية دراسة البلورات بالأشعة السينية. وطريقة التحليل الجديدة ستسرّع عملية اكتشاف المركبات الواعدة الجديدة من آثار مستخلصة من النباتات والفطور النادرة.
ومن الممكن أن تُستخدَم في المخابر الجنائية للتحرّي السريع عن آخر المشتقات الهيروئينية في الشوارع أو مساعدة المسؤولين في الرياضات الاحترافية في الكشف عن الكميات الصغيرة جدًّا من محسنات الأداء عند المشاركين، فكلّ هذا أصبح ممكناً الآن لأننا نمتلك مفتاحَ الكشف عن البنية، والبِنية هي التي تحكم عالم الكيمياء.
المصدر:
هنا