المجاملات.. فن أم عادة؟
التعليم واللغات >>>> اللغويات
في الواقع؛ غالبًا ما يُقابَل السلوكُ غير المتحضر لأولئك الذين في السلطة بردٍّ خافت، وذلك بفضل قواعد الكياسة غير المكتوبة. ولكن؛ هل هو شيءٌ فريد من نوعه في الثقافة الأمريكية، حيث يُفضَّلُ تجنب أيّ نوع من أنواع النزاعات الاجتماعية عن طريق الإشارة إلى السلوك السيّئ؛ في حال كنتَ في نهاية المطاف غير متمدن؟
وعلى الرغم من الصور النمطية المؤسفة القبيحة للأمريكيين في الخارج، فإنَّ المدنية الأمريكية لا تعاني التناقضَ اللفظي تمامًا كما قد يمزح بعضُ الناس. وقد تبدو مهارة التنقل عبر الكياسة -بكل ما فيها من مراوغات غريبة ومخاطر خفية- مهمّةً جدًّا لدرجة أن الأمريكيين غالبًّا ما يكونون مرتبكين في كيفية الاستجابة في أفضل السيناريوهات للإطراء أو المديح، ناهيك عن الأسوأ؛ مثل تجاوز العادات المجتمعية تماماً. إذا فكّكنا ممارسة الكياسة اللغوية في اللغة الإنكليزية الأمريكية، فإنَّ الأمر يبدو -على الرغم من سمعتهم المبالغ فيها عبر البحار- بأنّ الأمريكيين في المنزل هم أكثر الناس أدبًا على الأرض، مع رغبة كبيرة في الانسجام مع الأخرين.
ووجدَ الباحثون أن المديح الذي يُستعمل في اللغة الإنكليزية الأمريكية يكون أكثر تواترًا بكثيرٍ من اللغات الأُخرى أو حتى أكثر من اللهجات الأخرى في اللغة الإنكليزية.
ففي مثل هذا الوقت من السنة الماضية؛ نظر كثيرٌ من المتابعين في إحراجٍ إلى الإطراء والمديح الذي صدر عن مجلس وزراء ترامب الغريب؛ الإطراء المتملقُ والضروري ظاهريًّا؛ والآتي من أعضاء الوزارة الجدد.
وعلى الرغم من أنَّ المديح كان كبيرًا جدًّا؛ لكن من الواضح أنه أرضى ترامب. ويمكن لأعراف الأدب اللغوية أن تكشف عن قيم الثقافة حتى في اجتماعٍ لمجلس الوزراء. وقد تجاوزَ ترامب كثيرًا من العادات وهو ليس ممثلًا عن أكثر الأمريكيين فيما يتعلق بمدى تصرفه بأدب. لكنَّ كثيرًا من السمات التي أراد ترامب أن يُثنى بها -سواءٌ كانت صحيحة أم غير صحيحة- يتشاركها كثيرٌ من الأمريكيين وحتى غير الأمريكيين. وإنَّ أهميةَ هذه القيم كالفردية والاحتفال بالنجاح الذي حققتَه ذاتيًّا من مهارتك ومواهبك وعملك الجاد ومظهرك الشخصي وممتلكاتك المادية؛ حتّى إن لم نعترف بها؛ تُعزَّز بقوّة عن طريق استخدام نوع محدد من فعل الكلام وهو المديح، ويبدو أنَّ الأمريكيين يحبّون استخدامه.
ويبدو أنَّ المديح يتمتع بمكانة عالية في اللغة الإنكليزية-الأمريكية، ولذلك أصبح لا يُستغنى عنه في الحياة الأمريكية؛ مثل قول مرحبًا أو شكرًا لك.
ووجد الباحثون أنَّ الإطراء المُستعمل في الإنكليزية-الأمريكية يكونُ متكررًا جدًّا وعلى نحو أكثر من اللغات الأخرى أو حتى في اللهجات الأخرى للغة الإنكليزية. وهم إذ إنّهم معتادون منذ الطفولة اتّباعَ هذه العادات من السلوك؛ يستمتع الأمريكيون بالمتاجرة في المديح عمليًّا في كل مكان ويستبدلونه بأفعالِ الكلام الأخرى مثل التحية أو الشكر أو الاعتذار أو بدء محادثة.
يُستخدمُ المديح المتواضع بوصفه مزيجًا اجتماعيًّا للإرادة الطيبة حتى يصبح كسلعةٍ يُتاجَر بها يوميًّا عن طريق تبادل المحادثات. وفي الواقع؛ في وقت ما؛ كما يلاحظ Jhon F. Clark: "كان يوجد مثل هذا الشيء ويُسمَّى آخر تجارة/ "trade last. ويشير هذا المصطلح إلى "طقس معقد حيث يوافق اثنان من الناس على تبادل المديح بعضهما مع بعض في روح التجارة العادلة". ومن المثير للاهتمام أنَّه كان يوجد فهم غير مكتوب، حتى أنَّ أيّ شخص يصرح بأنَّ لديه "trade last" لشخص آخر؛ فسوف يحتاج إلى أن يتلقى مديحًا بالمقابل أولًا؛ أي شيءٌ على غرار اجتماعات مجلس وزراء ترامب.
لا يعمل ولا يلعب الأمريكيون بجدّ فحسب، بل يمدحون ويثنون بجدٍّ أيضًا.
وتبعًا لنظريات الإبداعية في الكياسة اللغوية (التي تكشف عن نظرة قاتمة للتفاعل الاجتماعي الإنساني)؛ فإنَّ سببًا واحدًا يدفع الأمريكيين إلى استخدام الإطراء هو نظرتهم إلى الحديث كأنّه ساحة معركة، وإنَّها معركة مستمرة وحساسة للمكانة الاجتماعية وقوّة التفاوض عندما نحاول أن نسيطر على كيفية رؤيتنا أنفسَنا، وكيفَ نريد الآخرين أن يرونا.
كل ما نقوله لديه الإمكانية أن يكونَ صراعًا إذا ما أخذوا الطريق الخاطئ ولم نترك أيَّ خيار لحفظ ماء الوجه، ولذلك نتشجع لاستخدام الكياسة اللغوية لنتجنَّبَ الصراع إستراتيجيًّا، ولنوازن التهديد ونمنع سوء التفسير.
هكذا تذهبُ النظرية؛ فإذا كانت التفاعلات الاجتماعية حقًّا مصيدة؛ فإنَّ الأمريكيين إذا لم يحوّلوا المديح الى شكل فني فإنَّهم على الأقل قد حوّلوه الى صيغة فعّالة تعمل لتجنب صراع المحادثات. وعندما يفهم الجميع ماذا عليه أن يفعل؛ فإنّها تنجح.
كيف يعمل المديح؟
إنها حقيقة غريبة -تبعاً لـِ Manes وWolfson- بأنَّ الإطراء في اللغة الإنكليزية-الأمريكية هو معادليّ ومتكرر بقوة في أنماطهم. ونحويًّا؛ فإن الإطراء يقع غالبًا تحت واحد من ثلاثة أشكال مثل:
“I like/love something,” “That’s a nice/good/beautiful something,” or “something is nice/good/beautiful/etc.”
تؤدي الصفات البسيطة معنى الإطراء في أغلب الحالات، ومن هذه الصفات خمسُ صفات تظهر ظهورًا متكرًّرًا كثيرًا: nice, good, beautiful, pretty, and great. وقد حُددت المواضيع تحديدًا كبيرًا بالقيم التي تشاركها الأمريكيون؛ مثل التركيز على الظهور أو الممتلكات أو أداء الشخص مثل أدائه الجيد في العمل.
وغالبًا ما تُستخدَم هذه المواضيع، ولكن لا يوجد مجموعة غنية من الطرائق الإبداعية لنقل الإطراء. وعلى سبيل المثال؛ لاحظ Wolfson بعضَ المبادلات مع العربية حيث الإطراء غير مباشر:
ويستطيع الإطراء في ثقافات أخرى أن يظهر على نحوٍ مفهوم أكثرَ مقلِّلًا تأثير طرائق المديح غير المباشرة والتي قد تبدو أكثر صدقًا ولكن قد تُساء قراءتها أيضًا. وفي دراسة لمحادثة حفلة غداء فرنسية وأمريكية؛ لاحظ المشاركون الفرنسيون بأن تعبير التقدير متكرر ومُبالَغٌ فيه مثل عبارة:
( “a gasp of amazement or an extended ‘mmmmm’ of appreciation” شدة الدهشة و mmmmm المطولة) للتعبير عن تقدير الطعام، التي بدت للمتحدثين الفرنسيين بمنزلة الحماس القسري وغير الصادق. ولكن من جهة أخرى بالنسبة إلى المتحدثين الأمريكيين؛ فإنَّه يُعدُّ -تقريبًا- طبيعةً ثانية لنقل إشارات واضحة وللحد الأقصى في المجاملات، لتقليلِ أيّ ارتباك أو صراع محتمل.
لماذا تُعد كلمة "شكراً لك" غير كافية؟
من الجيد جدًّا أن تملك أعلى حدٍّ من المجاملات الواضحة المُهدِّئة للمستمعين في جو جيَّاشِ العاطفة ولكن يوجد شيءٌ واحدٌ كان يلاحظه الباحثون مدّةً من الزمن مثل Anita Pomerantz: حتّى المتحدثون الأمريكيون-الإنكليزيون يمكن أن يتوتروا أو يرتبكوا عند كيفية الاستجابة على نحوٍ ملائم للمجاملات.
عددٌ لا يُحصى من إرشادات الإتيكيت وخبراء الكياسة/الأدب والأهل حَسَني النية قد علَّموا الناس أن يجيبوا ببساطة بكلمة "شكراً لك" عندما يَتَلقّون مجاملة. وعلى الرغم من أنَّ "شكراً لك" المختصرة هذه؛ غالباً ما تبدو إجبارية/اعتباطية وليست صحيحة تماماً لكثيرٍ من الأمريكيين سواءً أكنت متحدثًا أم مستمعًا. بدلًا من ذلك؛ يحاول كثيرون أن يرفضوا أو أن يقللوا من قيمة عندما يتلقون مجاملة. ومن المثير للاهتمام أنَّ دراسةً قد وجدت أنَّ المتحدثين الأمريكيين-الإنكليزيين فقط هم من يقبلون المجاملات بكلمة "شكراً لك" في قرابة ثلث المرات بالمقارنة بمتحدثي الإنكليزية الجنوب أفريقيين الذين يقبلون المجاملات في كل ثلاث مرّات من أربع، وبمتحدثي الإنكليزية النيوزيلانديين بقرابة الثلثين في كل مرة تقريباً.
وكما تشير Pomerantz؛ فإنَّ هذا يرجع إلى شيئَين يجب أن يُلبَّيا عند الإجابة على المجاملة. ولكي تقابَل المجاملة بمثلها، جاعلًا المتحدثين يشعرون بشعور جيد نحو أنفسهم، وعلى المستمع أن يوافق معهم. ولكن المعضلة المحيّرة تتمثّل في أنّه يجب عليهم أن يتجنبوا مدح أنفسهم والتماشي مع عادات التواضع العادلة/المتساوية. ويكونُ الحلُّ الذي يتخذه الناس والذي يُحبط كثيرًا من الماهرين في الإتيكيت بتحويل المجاملة عن أنفسهم الى غرض ما أو بمجاملة المجامِل أو تقليل المجاملة وتجنب الموضوع كليّاً، وقد يفزع بعض الناس ويختارون الصمت التام. مَن الذي قد يلومَهم؟
ويرتبكُ كثيرٌ من الناس من كيفية تلقي المجاملة، الأمر الذي يُظهِر حجم أهمية الانسجام بعضهم مع بعض ومدى تلبية المتحدثين الأمريكيين-الإنكليزيين الراغبين لالتزاماتهم الاجتماعية.
أصبحَ سلوك المدح متجذّرًا في أسلوب الحياة في أمريكا، فالتمدن مهم، ولكن في وجه سلوك حقيقي مُهدّد عندما يستمر خرق أعراف الأدب/الكياسة، فإن قواعد الأدب/الكياسة قد لا تعود تعمل بالطريقة التي تتوقعها.
المصدر:
هنا