السلوك: نِتاج جيناتنا أم بيئتنا؟ أم أن للبيئة تأثير في الجينات؟
علم النفس >>>> المنوعات وعلم النفس الحديث
اعتدنا الظن بأننا نِتاج كلِّ من الجينات وتأثيرات البيئة، لكنَّ الأبحاث اليوم تتوجه لدراسة التعديلات التي تملكها البيئة على الجينات؛ فكيف تَجري دراسة هذا الموضوع وإلى أين وصلنا؟
التوائم المتطابقة لها الدور الرئيس في فهم العلماء لتأثير البيئة أو الجينات في السلوك؛ إذ ساعدتنا الدراسات على التوائم المتطابقة التي فُرِّقت عند الولادة ونشأت في بيئة مختلفة في فهم السلوك الذي كان إمَّا للجينات وإمّا للبيئة التأثير الأكبر عليه، ولكن؛ ماذا عن التوائم المتطابقة التي نشأت في البيئة نفسها؟ يتشاركان البيئة نفسها والـ DNA نفسه، وما زلنا نرى بعض الاختلافات في سلوكهم؛ فكيف نفسر هذه الاختلافات؟
أظهرت الدراسات أن بعض الاختلافات في السلوك يمكن أن تفسر بما يُسمَّى:
"التغيرات فوق الجينية epigenetics" وهي الظاهرة التي تؤثر في التعبير الجيني بفعل البيئة دون التغيير في تسلسل الـ DNA، وتظهر تأثيراتها في المظهر والحالة الفيزيولوجية والإدراك والسلوك، وغيرها.
ولفهم ما فوق الجينات" Epigenetics "؛ علينا أولًا فهم الآلية التي يُحشَر بها شريط الـ DNA -الذي يصل طوله إلى نحو مترين تقريبًا- داخل نواة الخلية التي لا يمكن أن تميزها العين المجردة؛ فكيف يمكن لشريط بهذا الطول أن يتسع في حيز صغير جدًّا كالنواة؟
يحدث ذلك عن طريق تكديس الـ DNA بربطه ببروتينات تُدعَى الهيستونات؛ ممَّا يؤدي إلى طيِّ شريط الـ DNA، ويُدعَّى هذا الارتباط بين الـ DNA والهيستونات بالكروماتين، لكن المشكلة هنا أن بِنية الكروماتين المكثَّفة تمنع الخلية من قراءة جميع الوحدات الوظيفية في الـ DNA؛ التي تُعرَف بالجينات، ونطلق مصطلح الإشارات فوق الجينية على كل من الهيستونات ودرجة تطبَّق الـ DNA.
وإنّ العمليات التي يمكن أن تؤثر في عملية التعبُّر الجيني بآلية فوق جينية تشمل: مثيلة الـ DNA والتعديل المحدث بالهيستونات وإعادة قولبة الكروماتين والـ microRNA.
ولكن؛ متى يحدث هذا التعديل في الـ DNA ؟
تحدث أغلب التعديلات في مرحلة التطور الجنيني؛ إذ يكون الجنين في البداية مجموعة خلايا جذعية متماثلة لا تحوي إشارات فوق جينية، ومن ثم تبدأ بالانقسام لتتعطل جينات وتتفعل أخرى عن طريق الإشارات فوق الجينية، وهكذا تتمايز الخلية الجذعية باتجاه خلية عصبية -على سبيل المثال- لا تشبه أي نوع آخر من الخلايا.
ويمكن لهذه التعديلات أن تحدث بعد الولادة أو حتى بعد البلوغ، ولا تقتصر على مرحلة الجنين.
الآن، وقد فهمنا طريقة الإشارات فوق الجينية في تغيير التعبير الجيني عند جينات معينة؛ فلا بدَّ أن نذكر أن لكل سلوك جينات معينة مسؤولة عنه وأن الإشارات فوق الجينية قد تُغير التعبير الجيني عن الجينات المسؤولة عن السلوك؛ فما الذي يجعل الجين المسؤول عن تحمل التوتر فرضًا مفعَّلًا عند البعض ومعطَّلًا عند البعض الآخر؟
أجرى الباحثون تجربة على الفئران التي تحمل جين يرمز مستقبل الـglucocorticoid ؛ فهذا الجين يساعد الفأر على تحمل التوتر عندما يُعبَّر عنه، والتجربة أظهرت أن صغار الفئران التي تلقت اهتمامًا أقل من أمهاتها انخفض لديها التعبير عن هذا الجين؛ ممَّا قلل من قدرتها على تحمل التوتر وميلها إلى التصرف بقلق.
وقد أُجرِيت تجربة أخرى على ذكور الفئران؛ إذ عُرِّضت لسموم معينة قبل الإلقاح، ووُجد أن الذكور التي عُرِّضت للكحول قبل الإلقاح نشأ أبناؤها ليكونوا أكثر عدوانية وأكثر قابلية لخوض المخاطر، وأعطى كلٌّ من التدخين والكوكائين تأثيرًا سلبيًّا مشابهًا في التعبير الجيني .
وتُسلِّط مثل هذه التجارب الضوءَ على أهمية سلوك الأم خلال حملها؛ فتدخين السجائر وشرب الكحول وتعاطي الكوكائين؛ تُعدُّ جميعها مؤثرات من البيئة أحدَثت فِعلاً في التعبير الجيني وأثرت في السلوك.
ومن غير الممكن الحديث عن السلوك دون التطرق إلى دور كل من عمليتي التعلم والذاكرة فيه؛ إذ اكتُشِف أنَّ لمثيلة الـ DNA والتغيرات في الهيستونات (إشارات فوق جينية ) تأثيرًا في السلوك والتعلم؛ ففي تجربة على الفئران؛ عُرِّضَت للصعق الكهربائي في مكان واحد محدد من أقفاصها؛ أظهرت هذه الفئران خوفًا وابتعدت عن ذلك المكان، وذلك ما يُعرَف بمنعكس الخوف الشرطي، وما حدث هنا أنه بعد تعرض الفئران للصعقة الكهربائية؛ ازداد أنزيم الـ DNA Methyltransferase (المسؤول عن إضافة مجموعة ميثيل إلى الـ DNA؛ أي مثيلة الـ DNA وهي عملية من عمليات التغير فوق جيني) في منطقة الحصين؛ مما أدَّى إلى تكوّن الذكريات، فلو كُبِح هذا الأنزيم؛ لمَا تكوّنت الذكرى.
ويعزِّز تكوُّنُ ذكريات الخوف أستلة الهيستونات؛ مما يقوِّي ذاكرة الخوف ومن ثَمَّ تجنب الفئران لمكان الصعق؛ أي أن عملية التجنب حدثت بآلية فوق جينية!
وذلك يتكرر - وإن اختلفت الآلية - عند تعلم أي شيء يؤثر في سلوكنا وردود أفعالنا تجاه كثير من المواقف.
هل تنتقل هذه التأثيرات في الـ DNA عبر الأجيال ؟
يُمكن في بعض الأحيان أن تنتقل هذه التأثيرات عبر الأجيال، لكنها تنتقل إلى قليل من الأجيال فحسب؛ فإذا امتلك أحد الأبوين سلوكًا معينًا بتأثير البيئة -كما ذكرنا-؛ فمن الممكن أن يورث سلوكه هذا لأبنائه.
لطالما ظننَّا أنَّ جيناتنا لا تتأثر ببيئتنا، وهذا المفهوم تغير الآن؛ فَلْنكن أكثر لطفًا مع جيناتنا ولنعي أن ما نتناوله وما نفعله اليوم سيؤثر في جيناتنا وجينات أبنائنا.
المصادر:
هنا
هنا
هنا