دراسة تلقي الضوء على التحديات البيئية في عالمنا العربي
الطبيعة والعلوم البيئية >>>> علم البيئة
يواجه العالم العربي تهديدات كبيرة للتنمية المستدامة فيه، بل إن الأمر يتعدى ذلك إلى فقدان صلاحية نظمه البيئية للاستيطان البشري. الأمر غايةٌ في الأهمية خصوصاً أن وجود مجتمعات كاملة بات على المحك.
تناولت دراسة شاملة جديدة نشرت في مجلة لانسيت (Lancet) الفرصة الأفضل التي قد تمكن المنطقة العربية من مواجهة مشاكل انعدام الأمن الغذائي وندرة المياه والكوارث الطبيعية مع التطرق إلى مشاكل الصحة والإسكان التي لمـّـا تــُـرفع درجة الاهتمام بها بعد إلى مستوى الحاجة القصوى حيث يجب أن تكون.
ما هو مدى خطورة الموضوع؟
يفتقد عالمنا العربي إلى الاستدامة البيئية والتي تعد قضيته الأساسية خصوصاً وأن تطوره البيئي والسكاني يتفاعل بقوة مع مستوى الصحة التي يهدد تدهورها الإنسان؛ رأس المالي الأهم في العالم العربي. مثلاً: العوامل البيئية كالجفاف يمكن أن تدفع للتمدن والذي بدوره يزيد من الأحياء الفقيرة في المدن حيث تجد الأمراض مرتعاً خصباً لها.
للعرب دور كبير في التغير المناخي العالمي؛ عموماً، هناك احتمال بنسبة 15% لارتفاع حرارة الكوكب 4 درجات مئوية في عام 2100 وستزيد احتمالية حدوث ذلك إذا لم تتخذ السياسات المناسبة للحد من الآثار البيئية للنشاط السكاني العربي. أما عن التأثير المحلي للعرب على أنفسهم فقد قدر أن كل 3 سنوات من الصراع العنيف المنتشر يودي إلى تباطؤ معدل تخفيض الفقر بنسبة 2.7%
تفيد تقارير عدة من العالم العربي بأن تقييم تطور العرب والتهديدات التي تواجههم يجب أن يستعمل مصطلح البقاء (survive) بدلاً من المصطلح المستخدم عادةً وهو الأمن (Security) (أمن غذائي، أمن مائي...) لكون المعطيات تشكك حتى في قدرة العرب على النجاة وليس فقط في قدرتهم على تحقيق أمنهم من عدمه. فمفهوم "البقاء" يشير إلى ضرورة ملحـّـة بينما لا يقضي مفهوم "الأمن" إلى ذلك بالضرورة.
لماذا مفهوم البقاء أصلح من مفهوم الأمن لتقييم وضعنا؟
لأن المفهوم انتقائي ومركز أكثر ويشير إلى أن الأمر أكثر جدية وإلحاحاً؛
لأنه يساعد على تصحيح التركيز المفرط على الجوانب الإدارية وتحويل النقاش نحو الخيارات الاستراتيجية للتنمية؛
ولأنه يوجه الاهتمام إلى كون البقاء على قيد الحياة على المحك (أي يوجه الاهتمام نحو أولئك الذين يعانون بشدة اقتصادياً واجتماعياً من الظروف الراهنة في العالم العربي).
مناقشة هذا الموضوع تتمحور في أربعة مواضيع رئيسية متكاملة هي:
- الاتجاهات السكانية، التحضر والهجرة؛
- ندرة المياه وانعدام الأمن الغذائي؛
- تغير المناخ؛
- الحرب والصراع والتحولات العالمية
لكن دعونا نلخص المشكلة في نقاط: يمكن أن نصنف المشاكل إلى:
- طبيعية: أدى التوافر الضعيف للمياه العذبة وهبة النفط إلى تحديد اتجاهات التنمية وأنماط تجمعات وتحركات السكان. الجفاف "المزمن" والذي بدأ في 2006 وصل إلى شمال شرق سورية متزامناً مع ضعف السياسات البيئية دفع الآلاف من الناس للانتقال إلى المدن وما تلا ذلك من تفاقم مشكلة العمالة والإسكان والبنية التحتية الغير مجهزة وهذا ما سرع توجهات التحضر على المستوى الطويل.
وفي مكان آخر، أوضحت دراسة يمنية الانخفاض الكبير في المدخول الريفي غير المتأتي من الزراعة كنتيجة للفيضانات، فقدان الغلة وارتفاع أسعار الغذاء العالمي. يشار أيضاً إلى أن محاصيلنا أقل قدرة على تحمل الإجهادات البيئية (حرارة، برودة، صقيع، جفاف) والإحيائية (أمراض)؛ فنحن تقريباً لا نطورها لتواجه البيئة.
- اجتماعية: التسلسل الهرمي الاجتماعي بالإضافة للرغبة بإنجاب الأطفال والولاءات العشائرية والقبلية والمعتقدات حول الجنس والشيخوخة كل هذا قد يجعل بعض السياسات السكانية التنموية مفضلة على أخرى.
- سكانية: 57% من سكان العالم العربي يعيشون في المدن ومن المتوقع وصول هذه النسبة إلى 70% بحلول العام 2030 بسبب الهجرة والنمو السكاني ويرجع السبب في ذلك إلى الريع الاقتصادي وإمكانية تطوير الحـِـرَف انطلاقاً من استثمارات صغيرة. لكن النزوح إلى المدن يولد ظروف إقامة غير مستقرة وضغطاً على النظم البيئية بالإضافة إلى الضغط الذي يسببه تغير المناخ ناهيك عن أن اللاجئين من سوريا إلى مصر ولبنان مثلاً أو من فلسطين إلى لبنان أو من دارفور إلى القاهرة يميلون للاستقرار في مناطق أكثر عرضة للإجهاد البيئي بطبيعتها.
- إدارية: التوسع الضخم للقطاع العام بما يوفره من ضمانات العمالة والتعويضات جذب الناس نحو المدن. الجفاف المستفحل في الجزائر وسوريا مؤخراً لا يعزى فقط للتبادلات المناخية والاحتباس الحراري العالمي بل أيضاً لقدرة الهياكل والمؤسسات الاجتماعية للتعامل مع المشكلة.
نمو القطاع الرسمي في العديد من المدن ليس كافياً لاستيعاب السكان خصوصاً مع الأبنية غير الآمنة والعشوائية التي انتشرت كنتيجة لتدني الأجور، ففي مدن مثل صنعاء والقاهرة تتركز التجمعات السكانية المفتقرة للصرف الصحي ومياه الشرب الصالحة، مثل هذه الظروف غالباً ما ترتبط ضمنها الفيضانات وموجات الجفاف والحر بالظروف الصحية غير الملائمة، كما تنتشر الأمراض التي تنشأ في المياه الملوثة الناتجة عن الأحياء الفقيرة والتي قد تكون أيضاً محملة بمخلفات الصناعات الصغيرة.
سياسية: الظروف السياسية الراهنة تستبعد احتمالية إقامة تعاون في المستقبل المنظور للتغلب على تحديات التصحر وارتفاع مستوى البحر وإدارة المياه. إذا أردنا توسيع دائرة المشكلة السياسية يمكن أن نطرح مثالاً حول الارتباط بالغرب كبديل للتعاون العربي: المحاصيل التي نملكها، خصوصاً الحبوب تصنف على أنها الأخفض إنتاجياً مقارنةً بدول العالم الأخرى، الاستيراد الكبير للحبوب لاستخدامها الواسع في الحمية الغذائية العربية (قمح، أرز) أدى إلى الاعتماد الكبير على التغييرات العالمية في أسعارها.
بعض الأمثلة الواقعية:
1. دمشق وصنعاء وعمـّـان كلها لديها أنظمة متشددة لترشيد استخدام المياه. لكن على العكس فإن البنية التحتية وتدهور البيئة وعجز المياه في قطاع غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة، سيجعلها غير صالحة للسكن في2020؛
2. ارتفاع النترات في مياه شرب قطاع غزة، انتشار الأمراض السارية والمعدية كالكوليرا والزحار والتيفوئيد وغيرها وشح المياه في القطاع حيث أن نصيب الفرد من المياه اليوم هو 16% فقط من نصيبه في عام 1960. عموماً، يتوقع أن تصنف معظم الدول العربية دون حدود الفقر المطلق في المياه بحلول العام 2050 والذي يكون فيه نصيب كل الفرد 500 متر مكعب من المياه فقط في العام؛
3. المناطق الساحلية المنتجة في قطر ومصر معرضة بشدة لارتفاع منسوب البحر الذي سيقلص الدلتات؛
4. أبو ظبي ودبي ومسقط تفكر ببناء خزانات مياه عملاقة كإجراء احتياطي لتهديد نقص المياه؛
5. المملكة العربية السعودية التي كانت تستثمر لعقود في الأراضي الأفريقية لإنتاج الغذاء بشكل غير مستدام بدأت تعود للاستثمارات المحلية؛
6. ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب وتحول الأسر إلى الصغيرة لتصبح قاعدة المجتمع وانخفاض التحويلات المالية القادمة من دول الخليج والمغترب كل هذه التحولات تنذر بقابلية أقل للبقاء في المستقبل، ففي دول الخليج بدأت الحكومات تعتمد أكثر على الشباب المحلي الصاعد وقللت الاعتماد على الخبرات الأجنبية أما في البلدان منخفضة الدخل فتعتمد العائلات على الأموال المرسلة من المهاجرين في الخارج أو على عمل أفراد الاسرة في أكثر من مصدر دخل واحد لكل فرد؛
7. سكان دول الخليج يستنزفون الطاقة بشكل كبير دون الاكتراث لتزايد انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بالإضافة إلى العديد من الممارسات التي تهدد صحة الإنسان ونظافة المياه الجوفية والنظم البيئية؛
8. الحروب والصراعات والتحولات العالمية في الاقتصاد كلها أدت إلى تغير في توزع وحركة السكان وإلى شلل مؤسسي وتدهور بيئي مثال ذلك الاكتشاف الموثق للمعادن الثقيلة (ملوث بيئي خطير) في ترب قطاع غزة، قطع الأشجار في دارفور، التلوث بالبيتروكيماويات في لبنان (في البحر والتربة)، التدمير المنهجي لأهوار جنوب العراق، احتراق آبار نفط الكويت، وتلوث الترب والمياه الذي تبع الآثار المباشرة للصراع العسكري في العراق.
9. هيمنة المخاوف الأمنية على السكان بالإضافة إلى فقدان القدرة البشرية الناتج عن الموت والإصابات والصدمات النفسية وتدمير البنى التحتية وضعف أو انعدام النمو الاقتصادي أدى أيضاً لآثار على الصحة وعدم توفر الرعاية الصحية. العيوب الخلقية بعد حروب العراق وزيادة وفيات الرضع التي تعادل 1% من مجموع الوفيات الناتجة عن الصراع (كمتوسط لجميع فترات ومراحل الصراع في العالم العربي) هي خير دليل على ذلك.
ما الحل؟
إيجاد حلول للمشاكل السابقة سيمتد أثره نحو القضايا الصحية التي يجب ألا تنفصل عن قضايا البيئة والتنمية السكانية والتطور، فصناع القرار يجب أن يدركوا أهمية تبني سياسات صحية ذات صلة بالبيئة والعمل والسكن والخدمات الاجتماعية لما فيه خير وسلامة المواطن العربي ورفاهيته. تاريخياً تم اعتبار القطاع الزراعي كطريقة لتطوير معظم الدول العربية كالسودان ومصر والمملكة العربية السعودية. الهدف كان الوصول للأمن الغذائي وإعادة التنمية الريفية على حساب التمدن لكن لم ينجح أي منها حتى الآن. على أية حال، تبني محاصيل ذات كفاءة استخدام مياه عالية (قادرة على بناء مادة جافة عالية بعدد أقل من الوحدات المائية) سيشكل تقدماً هاماً في سبيل الحل.
التكامل البيئي الإقليمي حول تبادل المياه والطاقة والغذاء والعمل وحده سيقدم أملاً لتحسين قدرة الدول المنفردة، ولو أنه من الصعب أن يتحقق سياسياً. التعاون الإقليمي المطلوب هو الذي يحمي تجمعات المياه، يحسن كفاءة التوزيع، ويضع استراتيجيات للاستخدامات المختلفة للموارد ويحفز الفرد للمحافظة عليها خصوصاً في دول الخليج حيث متطلبات المواطن الاستهلاكية تعد الأعلى في العالم.
هناك إمكانية كبيرة لتحسين البنى التحتية المتعلقة بالمياه خصوصاً وأنها غالباً ما تتأتى من خارج حدود العالم العربي بالإضافة لكون المدن العربية الكبرى تقع في نهايات مجاري الأنهار قرب المصبات حيث الطلب على المياه ضخم وفي نفس الوقت تصلها الأنهار بعد فقدانها أكثر من 50% من غزارتها.
إذاً فالحل تعاون بيئي من أجل البقاء: العالم العربي يزخر بثروات رائعة لامتداده على مناطق ونظم بيئية واسعة بالإضافة إلى تراثه المعماري والديني وتقاليده وتاريخه. التنوع هو من أهم أدوات معالجة التحديات الهائلة التي ناقشناها. الفوائد المرجوة من التعاون:
- الإدارة العقلانية للموارد خاصةً المائية؛
- وضع سياسات زراعية وغذائية أكثر أمناً؛
- تبادل المنفعة والطاقة والعمالة؛
- فعالية أفضل في مواجهة الكوارث البيئية خصوصاً عندما يتعلق الأمر بمسألة البقاء على قيد الحياة.
التعاون ليس حلاً عالمياً بالتأكيد لوجود بعض المشاكل التي ترتبط بشبكات خارج العالم العربي بالإضافة إلى أن التعاون إن حصل فستشوبه تحديات كبيرة قد ترجع للتاريخ والتحالفات والثقة والتي هي عوائق لا تخفى على معظمنا. على الرغم من أن الخلافات السياسية ستكون أول عائق أمام هذا التعاون إلا أن الاختلاف السياسي في نفس الوقت من الممكن أن يكون حافزاً للتغيير.
أخيراً: مجتمعات العالم العربي المختلفة قد تتطلب تخطيطات مستقبلية مختلفة ومع ذلك فإن الرغبة المشتركة بالبقاء هي التي ستجمعهم في النهاية لأنها ستكون ضرورة ملحة، وهذا هو المستقبل الذي يستحقه العالم العربي والمصير الذي يتساءل كل عربي اليوم عن سبب عدم تحققه حتى الآن.
المصدر:
هنا
:موقع المجلة الناشرة
هنا