فريدرك نيتشه، في الميزان بين العدمية والوجودية
الفلسفة وعلم الاجتماع >>>> أعلام ومفكرون
"إن هذا هو خيري الذي أحبّ، إن هذا ما يثير إعجابي، فأنا لا أريد الخير إلا على هذه الصورة، لا أريد هذه الأشياء تبعًا لإرادة إله ولا عملًا بوصية أو ضرورة بشرية، فأنا لا أريد أن يكون لي دليلٌ يهديني إلى عوالم عُليا وجناتِ خلود".
فريدريك نيتشه هو فيلسوف وشاعر وناقد ثقافي ألماني، كان لفلسفته أثرٌ كبيرٌ في تاريخ الفكر الحديث، ويعدُّ نيتشه ملهمًا للمدرسة الوجودية وما بعد الحداثة في مجالَي الفلسفة والأدب، وقد عُرف بشخصيته العدوانية كونه ناقدًا حادًا للمُعتقدات والمثالية الألمانية والقيم الأخلاقية السائدة.
وأثرت أفكار نيتشه الجدلية في الحداثة وما بعدها على نحو مباشر، مما تسبب بوضعه في الميزان بين الفلسفةِ العدمية والفلسفةِ الوجودية. وكي نتمكن من فهم اعتبارات هذا السؤال والتوصل إلى صورةٍ واضحةٍ لرؤية نيتشه الفلسفية بهذا الشأن، علينا أولًا إدراك تعريف الفلسفة الوجودية ونقيضها، وتفهم رؤية نيتشه الفلسفية للوجود والعدم.
يقوم الفرق بين الفلسفة الوجودية والفلسفة العدمية على سؤالٍ يمسُّ الكينونة "هل هُناك معنى جوهري في الحياة؟" وهنا تنقسم الفلسفات إلى تفرعات فلسفية مختلفة، نتناول منها الفلسفة العدمية والفلسفة الوجودية، ونضع الفيلسوف فريدريك نيتشه في الميزان.
- الفلسفة الوجودية: تقوم على الاعتقاد بأنَّ مزيجًا من الوعي والإرادة الحُرَّة والمسؤولية الشخصية يمكِّن الإنسان من امتلاك معنى خاص به في عالمٍ يفتقر في جوهره إلى المعنى الوجودي، الأمر الذي يدفعه إلى البحث عن وجوديَّته الخاصة.
- الفلسفة العدمية: تقوم على نقيض الفلسفة الوجودية، إذ تقول بأنَّ الحياة لا تملك معنى في جوهرها، وأن كل محاولات صُنع جوهرٍ للحياة هي في الحقيقة دون جدوى. وتنقسم العدمية إلى أشكال عدة؛ منها ما يدعو لتحطيم جميع القيم والمعتقدات والاعتبارات.
وقد مثَّلت العدمية في العصور السابقة نوعًا من التحطيم المستمر للقيم، ومن هنا نجد العدميَّ شخصًا غير مبالٍ ولا يحمل الولاءات لأية إيديولوجيةٍ أو اعتبارات أخلاقية، وهنا يبدأ الربط بين الفلسفة العدمية وفريدريك نيتشه بالظهور، وذلك تبعًا لأفكار فريدرك نيتشه عن إسقاط كل القيم والمفاهيم الأخلاقية السَّائدة وتعرية كل ممنوع، إذ يقول نيتشه في كتابه هذا هو الإنسان: "أتطلَّعُ إلى ممنوع؛ تحت هذه العلامة سيُكتب النَّصر لفلسفتي ذات يوم".
ومن هنا مسَّ نيتشه كل ممنوع، بدءًا من القِيَم الدينية ونهايةً بالقيم العدمية، وسُرعان ما خطَّ فلسفته ليعري كل القيم والاعتقادات ويحثَّ على القوة للارتقاء نحو الإنسان الأعلى، وقد كانت فلسفته عُرضةً للتأويل أنها تسعى للتدمير دائمًا، وهذا ما يعد أحد سمات الفلسفة العدمية، لكن الفارق الذي يؤدي دوره هنا "بين العدمية والوجودية" هي نظرة نيتشه لما بعد التدمير وتعرية القيم، ويُذكر هنا أن الفيلسوف فريدرك نيتشه قد وضح مرارًا وتكرارًا خطورة هذه الأفكار العدمية على المجتمع الأوربي، حتى أصبح يُطلق على ذلك اسم "العدمية النيتشوية"، وجادل بأن آثار تلك الأفكار سوف تدمر كل المعاني الوجودية والمعتقدات مما سيؤدي إلى أزمة في تاريخِ البشرية.
وعلى الرغم من تحذيرات نيتشه استمرَّت تداعيات العدمية بالاتجاه نحو طريق التدمير المطلق، وكلن هذا الاختلافَ الأول الذي يوضح وجودية الفيلسوف فريدرك نيتشه.
يرى فريدرك نيتشه أن العدم سوف تتسبب بانهيار المعنى والغاية، وهذا ما سوف يشكِّل اعتداءً كليًّا على الواقع، وهذا تبعًا للموجة التي تمر بها الحضارة الأوربية من تسخيف الحياة وتجريد الإنسان من وجوده الماديّ، ويقول فريدرك نيتشه:
"منذ فترة من الوقت، كانت ثقافتنا الأوروبية بأكملها تسير نحو الكارثة، مع تزايدٍ مزعج ينمو من عقدٍ إلى عقدٍ بلا كلل ولا ملل، عنيف ومتهور، مثل النهر الذي يريد أن يصل إلى النهاية".
ولهذا نجد أن أشكال العدمية التي تعمل على تقويض السلطة المعرفية والاعتبارات الوجودية لدى الحضارات هي عدو نيتشه اللدود، ويتحدث نيتشه عن ذلك في كتابه إرادة القوَّة عندما وصفَ معنى العدمية: "أن تُخفص القيم السامية قيمة نفسها، غياب الهدف، الجواب عن السؤال "لماذا"، تكمن المشكلة أن الإيمان بالعالم الحقيقي ضروري، ببساطة كي نعيش، إذ لا يمكننا أن نتحمل عالم الصيرورة هذا".
وتقودنا ضرورية الإيمان بالعالم الحقيقي التي تكلم عنها نيتشه إلى وجوديَّته، فيقول:
"ولكن بمجرَّد أن يكتشف الإنسان كيف أن هذا العالم مصنوع من أجل تلبية حاجاتٍ نفسيةٍ وحسب، وكيف أن ليس له فيه أي حق، تأتي آخر صورة من العدمية إلى حيِّز الوجود متضمنةً عدم الإيمان بأي عالم ميتافيزيقي، ومحرمةً على نفسها الإيمان بعالم حقيقي، وبعد الوصول إلى هذه الحالة يسلم الإنسان بأن حقيقة الصيرورة "الوجود" هي الحقيقة الوحيدة، وينكر كل السُّبل الملتوية التي تؤدي إلى عوالم ميتافيزيقية وآلهة مزيفة، لكن لا يُمكن أن يتحمَّل هذا العالم إن لم ينكره".
هذه هي وجودية نيتشه، مؤمنٌ على نحو مُختلف، لذا يحاول أن يصيغ الوجوديَّة على أنها آخر مرحلةٍ من العدمية، بل إنَّ العدمية ليست إلا سبيلاً إليها، وهذا السبيل يجب أن يحث على بناء الوجود المادي دون أن يلجأ لطرائق ملتوية وعوالم ماورائية أو معتقداتٍ دينية تحدُّ من الإرادة المعرفية والوجودية والارتقاءِ نحو القِيَم السامية، فتصبح العدميَّةُ النيتشويَّة طريقًا نحو الوجوديَّة ليس أكثر.
إذًا، نيتشه وجوديٌّ بقوَّة، ويتضح ذلك بالإضافة لما ذكر سابقًا من رؤية نيتشه للزواج، إذ يقول:
"ليس عليك أن ترسل سلالتك إلى الأمام فحسب، بل عليك أن ترفعها إلى ما فوق.. فليكن عملك في حقل الزواج منصباً إلى هذه الغاية".
"ما الزواج في عرفي إلا اتحاد إرادتين لإيجاد فرد يفوق من كان علة وجوده، فالزواج حرمة متبادلة ترسو على احترام هذه الإرادة".
يتعلق مفهوم الزواج في الفلسفة بمفهوم الوجودية والاستمرارية، ويقف على النقيض مع مفهوم العدم والانقراض، وكان الفيلسوف نيتشه يَحترم مفهوم الزواج ويَدعمه بفلسفته إلى الأمام لإيجاد سلالةٍ ترفع الإرادة الإنسانية إلى الأعلى، وتقوم على القِيَم السامية "الإنسان الأعلى"، وهذا ما كان يسعى إليه فريدرك نيتشه في كتابهِ "هكذا تكلَّم زاردشت" الذي وردت فيه رؤية نيتشه الوجودية عن الزواج.
المصادر:
1. نيتشه، فريدريك. هكذا تكلم زاردشت، علي مصباح، بيروت-بغداد، منشورات الجمل، 2007
2. نيتشه، فريدريك. هذا هو الإنسان، علي مصباح، بيروت-بغداد، منشورات الجمل، 2003
3. كريتشلي، سايمون. الفلسفة القارية، أحمد شكل، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2006
4. هنا
5. هنا
6. هنا