النوع البشري، من البداية إلى النهاية وما بعدها (الجزء الثاني)
كتاب >>>> الكتب العلمية
مرَّت البشرية بثلاثة أنواع من القوة، وعلى الرغم من التفرقة الواضحة بين فئاتها وأعراقها وانتماءاتها الفكرية فقد وحَّدها -قدر الإمكان- "المال، والإمبراطوريات، والدين"، ويأخذ الدين على وجه الخصوص مركزه في موقع مهم لتوحيد المجتمع البشري الهشِّ كونه يستمد شرعيته من سلطة عليا مُطلقة "حسب اعتقادهم"؛ وهذا ما يجعل بعض القوانين الأساسية غير قابلة للنقاش والتحليل تبعًا للقدسية التي تستند إليها، وقد صاغ الدين نوعًا من التكاتف الاجتماعي في المجتمعات التي تتشارك الاعتقاد الواحد والأيديلوجية الواحدة أيضًا، فيضمن بذلك الاستقرار الاجتماعي قدر الإمكان، ويتجه المؤلف في قسم "قانون الدين" إلى توضيح المعايير التي تقوم عليها الأديان، فعلى سبيل المثال؛ يجب أن تكون عالمية وتبشيرية لتحافظ على وجودها أطول مدَّة مُمكنة؛ فالاتساع في غسل العقول -حسب تعبيره- هو ما يضمن لأيَّة أيديولوجية البقاء وتكوين تكاتف اجتماعي غير هشٍّ وغير قابل للانحلال، وتبعًا لذلك، يراجع المؤلف تاريخ الوثنية وصولًا إلى الرب الواحد "التوحيد"، وكيفية انتشار الأديان، ويتميَّز هذا القسم من العمل بخوضه في تفاصيل دقيقة لمفهوم العبادة والتديُّن، إضافةً إلى توضيح التاريخ الديني البشري من أوسع أبوابه حتى أكثرها غموضًا ليضع معها في نهاية المطاف مفهومَ "الليبرالية"، فيعدُّه نوعًا معاصرًا من التديُّن؛ ولكن، بتفاصيل مختلفة وتوجُّه يصبُّ في رفض أيِّ تدخل خارجي "إنساني أو كوني" في حريته الخالصة، ومنه صيغت معاهدة "حقوق الإنسان" لتكون الوجه المُعاصر للتديُّن، فيُقَسِّم يوفال هراري الأوجه الجديدة للدين التي قدَّست الإنسانية وحقوقه دون غيره إلى ثلاثة أقسام:
· الإنسانية الليبرالية.
· الإنسانية الاشتراكية.
· الإنسانية التطورية "النازية؛ والحزب الآري مثال على ذلك".
مع توضيح أمثلة على كل منها وطريقة عملها وتوجهها الفكري، والتي تقع على الرغم من اختلافها في التفاصيل تحت تعريف واحد:
"للإنسان العاقل طبيعة فريدة ومقدسة تختلف اختلافًا أساسيًّا عن طبيعة جميع الكائنات والظواهر الأخرى، فالخير الأسمى هو خير الإنسانية".
وتكمن الاختلافات بينهم في تعريفين أساسين وهم "الإنسانية والوصية الأسمى".
ويتناول المؤلف في قسم "سهم النجاح" مفهوم التطور الثقافي وتأثيره على البشرية، وما يُسمى "تقارب الميمات" تحديدًا، وهذا ما ينتج عن نشر البشر أفكارَهم الدينية أو القومية أو الفلسفية، فالماركسيون "أو غيرهم" على سبيل المثال؛ يريدون للجميع أن يرى العالم كرؤيتهم، ويمكن أن يبذلوا حياتهم في سبيل نشر أفكارهم وتحقيقها، وتُعدُّ هذه الدينماكية الحركية للتطور الثقافي طبيعة بشرية تتحكَّم بمفاصل دقيقة في التاريخ وبمفاصل دقيقة في الحاضر أيضًا، ويعرض لنا المؤلف مثال آخر عن ذلك وهو "سِباق التسلُّح"؛ الذي تجريه دول العالم على الرغم من خطورته، فيوثِّق لنا الكثير من الميمات التي يتناقلها البشر دون إدراك خطورتها.
الثورة العلمية:
يُراجع المؤلف الـ 500 سنة الماضية وتفاصيل بدايات الثورة العلمية فيها، ويصف عام 1945؛ عندما فجَّر علماء أمريكيون القنبلة الذرية الأولى في التاريخ في ألاموغوردو في نيو مكسيكو بأنَّه اللحظة الحاسمة والأكثر تميزًا وأثرًا بالنسبة إلى الـ 500 سنة الماضية، ويراجع يوفال هراري الافتراضات التي أدَّت إلى دعم البحث العلمي، فيقول:
"الحلقة الراجعة للثورة العلمية؛ موارد، وقوة، وبحث؛ لأن العلم يحتاج إلى أكثر من مجرَّد بحث لإحراز تقدُّم، فهو يعتمد على التعزيز المشترك للعلم والسياسة والاقتصاد، وتوفر المؤسسات السياسية والاقتصادية الموارد؛ التي يصبح البحث العلمي دونها مستحيلًا، ويوفر البحث العلمي في المقابل قوةً جديدة تُستخدم للحصول على موارد جديدة؛ يُعاد استثمار بعض منها في البحث".
ويَصِفُ العلم بأنَّه يختلف عن جميع تقاليد المعرفة السابقة بثلاث نقاط:
· الاستعداد للاعتراف بالجهل.
· أهمية الملاحظة والرياضيات.
· اكتساب قوة جديدة.
ويجسِّد المؤلف النقاط السابقة التي تُعطي طابعًا مميَّزًا للعلم بأمثلة تتعلق بتجاوز الجهل في كثير من المفاصل التاريخية في المجتمع البشري بواسطة العلم عمومًا وعلم الإحصاء والاحتمالية على أنَّها أمثلةٌ على أثر الثورة العلمية في التقدُّم البشري، فيعود بالصفحات قليلًا ليؤكِّد أهمية لغة الرياضيات كونها لغة مهيمنة على العالم، ويوضِّح أخيرًا الخاصيةَ الثالثة "اكتساب قوة جديدة" باستخدام أمثلة تتعلق بقوة الأسلحة العالمية وعلم النانو، فينتهي من خواص العلم وميزاته بأمثلة شاملة وتفاصيل دقيقة.
ولا تنجو الفلسفة من التناول في هذا العمل أيضًا، فيناقش المؤلف في قسم "مشروع جلجامش" مسألةَ الموت كونها مشكلة غير قابلة للحل؛ ممَّا دعى البشر قديمًا إلى التصالح مع الموت وعقد آمالهم على الحياة الأخرى، فكانت أفضل العقول تحاول التصالح مع الموت بفرضيات ماورائية لإعطائه معنى ما بدلًا من الهروب منه ومحاولة الحدِّ منه، ولكنَّ الأمر يختلف في العصر الحديث بعد الثورة العلمية والتفكُّر العلمي؛ فيُرى الموت -غير أنَّه نتيجة حتمية- أنَّه مشكلة تقنية أيضًا نحو "نوبة قلبية، أو سرطان، أو عدوة..إلخ" ويجب أن تُعالج، وكل مشكلة تقنية لها حلٌّ تقني، فيتطرَّق هراري إلى مجابهة تاريخ العلم وتطوره في وجه المشاكل التقنية التي تُسبب الموت.
ومع اختلاط العلم مع التيار السياسي والاقتصادي، يطرح المؤلف سؤاله في الثورة العلمية: "ما الذي صاغ الرابطة التاريخية بين العلم الحديث والإمبريالية الأوربية؟"، فيراجع تاريخ الغزو الطامع بالاكتشاف المعرفي والتوسُّع الاقتصادي من جهة، والمعتمد على التطور العلمي للتجهُّز للحرب من جهة أُخرى؛ فالتحرك باتجاه الاكتشاف المعرفي قد قاده الغزو قرونًا عدَّة، ووقع العلم تحت سندان الحرب؛ فكان أحد أعمدة القوة التي تتنافس الحكومات "المجتمع البشري" للحصول عليها، وهذا ما سمَّاه يوفال هراري "الاكتشاف والغزو"، ويُعزي رسم خرائط العالم في القرون الغابرة في قسم "خرائط فارغة" إلى هذه الاستراتجية؛ إذ كانت خريطة الكرة الأرضية غير دقيقة على عكس ما كانوا يظنون، ولكنَّ نقطة التحول الحاسمة التي جعلت كريستوف كولومبوس عام 1492 يكتشف القارة المجهولة "أمريكا حاليًا"، والتي أطلق عليها اسم "الهنود"؛ فقد ظنَّ أنَّه اصطدم بجزر الهند أو ما نطلق عليه اليوم اسم الهند الشرقية، وأعلن ملكيَّته للأرض كونه المُكتشِف، وهذا مثال من بين أمثلة عدَّة لتوضيح مفهوم "الاكتشاف والغزو"؛ فهما يسيران في نهج تاريخي واحد، وقد بدأ معظم الجغرافيين من ذلك الحين بالبحث عن خرائط فارغة لتُملأ، وينقلنا يوفال هراري بعد ذلك إلى قسمين متتاليين "غزو من الفضاء الخارجي"، و "عناكب نادرة وخطوط منسية"؛ ليتناول بهما معلومات متسلسلة عن غزو الإمبراطوريات والأوربيون الذي أدى امتلاكُ الثروة والموارد والسعي إلى المعرفة "العلم" دورًا أساسيًا، ولكنَّ الأمر لا يتوقف هنا، بل "العقيدة الرأسمالية" تؤدي دورًا مهمًّا أيضًا في تاريخ الغزو والإمبراطوريات؛ إذ يقول يوفال هراري "[..] لو لم يسعَ رجال الأعمال إلى كسب المال لم يكن كولومبوس ليصل إلى أمريكا، ولم يكن نيل أرمسترونغ ليخطو تلك الخطوة الصغيرة على سطح القمر"، وهذا هو المدخل إلى القسم الآتي.
العقيدة الرأسمالية:
يبدأ يوفال هراري بسؤال: "كان المال ضروريًا لبناء الإمبراطوريات وتعزيز العلم؛ ولكن، هل يُعدُّ المالُ الهدفَ النهائي لهذه المشاريع، أم أنَّه مجرد ضرورة محفوفة بالخطر؟".
ومع الاعتراف الصريح من يوفال هراري بأنَّ النظام الاقتصادي الحديث معقَّد تعقيدًا كبيرًا وصعبٌ تفهُّمه، لكنَّه يُبدع في تبسيطه وشرح استراتجية الائتمان البنكية وكيفية عمل البنوك والنمو الاقتصادي، ويُسمِّيه الاحتيال الذكي المرهون بالمستقبل، فالاقتصاد الحديث -البنوك على وجه الخصوص- تُراهن على المستقبل في كل تحركاتها الائتمانية دائمًا، وهذا ما يجعل من "الرأسمالية" مستعدة لفعل أيِّ شيء لتأمين هذا المستقبل كما المُتوقَّع، فيشرح ذلك عن طريق مثاله المُتخيَّل "مخبز الكعك"؛ الذي يُمثِّل المشروع الاقتصادي الحديث.
وإضافة إلى أنَّ عنوان الكتاب "موجز التاريخ البشري"، يقدِّم المؤلف في قسم "موجز تاريخ الاقتصاد في العالم" مقارنةً تفصيلية بين الاقتصاد قبل الحديث والاقتصاد الحديث من حيث الإنتاج والأرباح؛ ليشرح امتداد العقدة الرأسمالية إلى مفاصل أكبر من الاقتصاد، بل الأخلاق ومجموعة من التعاليم عن كيف يجب أن يتصرف الناس، وأن يفكروا ويعلموا أبناءهم، ومبدؤها الأساسي هو أنَّ النمو الاقتصادي هو الصالح الأسمى، ولأنَّ العلم يدخل في عجلة الاقتصاد والموارد والاستكشاف؛ فإنَّ الرأسمالية أيضًا تُعدُّ داعمًا أساسيًّا للنهضة العلمية، ويتابع المؤلف شرح العقيدة الرأسمالية، ودورها في الحروب أيضًا، "مع ذكر أمثلة تاريخية" كونها تُعدُّ مشروعًا ربحيًّا قبل كل شيء آخر بالنسبة للنظام الرأسمالي، أو ما يُسمَّى المراهنة على المستقبل من أجل الائتمان وتحصيل المزيد من الثروة، ويفسِّر علاقة الرأسمالية مع السياسة والاستعباد البشري والظواهر اللاإنسانية في قسم "عبادة السوق الحرَّة" وقسم "جحيم الرأسمالية".
ويمرُّ المؤلف بعد ذلك في أقسامه الأخيرة من الكتاب "عجلات الصناعة، ثورة دائمة، وعاشوا سعداء إلى الأبد، نهاية الإنسان العاقل" للتاريخ البشري الحديث وتقدمه الصناعي مع توضيح أهم الوسائل التي اعتمد عليها، ودراسة مفهوم الحرب والسلام وفق رؤية اقتصادية في قسم "الهدنة الذرية"، إضافة إلى أنَّ نوح يوفال هراري يترك لنا توقعاته فيما يخصُّ نهاية الإنسان العاقل والمجتمع البشري، وهي توقعات غريبة ومثيرة للجدل.
معلومات الكتاب:
اسم الكتاب: العاقل، تاريخ مختصر للنوع البشري
الكاتب: يوفال نوح هراري
المترجم: حسين العبري، صالح بن علي الفلاحي
نشر عبر: دار منجول للنشر، 2018