هل بلغ العالم عتبة إفلاسه الأخلاقي؟
كتاب >>>> الكتب الأدبية والفكرية
ويرى أمين أنَّ الإنسانية في مرحلة تطوُّرها الراهنة تواجه أخطارًا لا مثيل لها، وأنَّ شعوب الأرض جميعها اليوم "على متن زورق هزيل، سائرين إلى الغرق معًا".
ويبحث أمين في فصول كتابه الثلاثة؛ المُثقلة بالقلق وبشيء من التشاؤم والإحباط، في أسباب الاختلال وسُبُل الخروج "نحو الأعلى".
الانتصارات الكاذبة
في حديثه عن تقهقر واختلال العالم، يبدأ أمين بإشكالية صراع الهويات، فيرى أنَّ من أبرز مؤشرات التقهقر هو انتقالُنا عقب الحرب الباردة من زمن كانت الانشطارات فيه أيديولوجيَّةً إلى زمن أصبحت فيه المجابهة تتعلق بالهوية.
فقد اجتاحت العالم موجةُ أمل بعد سقوط جدار برلين، وكان المُنتظر أن تنتشر الديمقراطية في أرجاء المعمورة، وأن تزول الحواجز بين شعوب الأرض على اختلافها، ولكنَّ ما حدث هو العكس تمامًا، فلقد انتقلنا إلى عالم استشْرَت فيه الانتماءات وبات فيه التعايش بين الجماعات البشرية المختلفة يزداد صعوبة يومًا بعد يوم؛ إذ انزلق العالم بعد الحرب الباردة من الأيديولوجيا نحو فكر الهوية، وغَدَت الديمقراطية فيه تحت "مُزايدات الهوية".
ثمَّ يبحث أمين -خصوصًا- في أسباب تقهقر العالَمَين الثقافيين اللذين ينتمي إليهما؛ العالم العربي الحاقد والعالم الغربي المتسلِّط، ومسؤولية كلٍّ منهما في اختلال العالم.
فالعالم العربي -كما يراه أمين- قد وصل إلى الدرك الأسفل، ويبدو عاجزًا عن تقبُّل ما كان يتقبَّله في العقود الماضية؛ فعلى سبيل المثال؛ إنَّ بعض الكتب التي نُشِرت في القاهرة في أثناء ثلاثينيَّات القرن الماضي ممنوعةٌ اليوم بسبب كفرها، وبعض المناقشات التي كانت تجري في بغداد في القرن التاسع عن طبيعة القرآن يُتعذَّر حتى التفكير فيها اليوم، إضافةً إلى أنَّ الأقليَّات في العالم العربي لم تكن يومًا مُهمَّشة ومقهورة كما هي حالها اليوم، ولم تكن هذه المجازر الطائفية التي نراها اليوم في العراق وغيره لتخطر على بال أحد، وعلى الرغم من إدراك أمين لمسؤولية الغرب في تعزيز العنف الطائفي (وخاصة في حرب العراق)، ولكنَّه يرفض أن يقدِّم "أعذارًا بائسة" للعالم العربي؛ فحين يُفجِّر سُنيٌّ نفسَه في سوق شعبي -على حدِّ تعبير أمين- ثم يُوصَف هذا القاتلُ بالبطل والشهيد، فلن تبقى جدوى من اتهام "الآخرين"، وما يستوجب على العالَم العربي فعلُه حينئذ هو أن "يفحص ضميره".
وإذا كانت مأساة العالم العربي أنَّه غارق في التعصُّب والبؤس وعاجز عن الالتحاق برَكْب الأمم، فإنَّ مأساة العالم الغربي هو قيامُه "بدور كروي" مبالغٍ فيه، بات غير قادر على المُضيِّ في ممارسته ممارسةً كاملة، فمع انتهاء الحرب الباردة، تفوقت الحضارة الغربية اقتصاديًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا حتى راح بعضهم يتحدث عن "نهاية التاريخ"، وعن عالَمٍ يزمع أن "يذوب سلميًّا في قالب الغرب الظافر"، وكان يجب أن يتيح هذا التفوق المُتعدد الأشكال الفرصةَ للغرب ليحكم العالم بحنكة، وأن يكون اللجوء إلى السلاح بعد ذلك استثنائيًّا؛ ولكنَّ ما حدث هو أنَّ انتصار الغرب اقتصاديًّا أدَّى إلى إضعافه، وذلك مع صعود العملاقَين الصناعيَّين (الصين والهند)؛ اللذين استعانا بالنموذج الغربي وتحوَّلا إلى منافسَين للغرب، وقد أدَّى تدنِّي حصَّة الغرب في الاقتصاد العالمي إلى عواقب خطيرة، فلم تكن أوروبا -واشنطن خاصةً- لتقف مكتوفة الأيدي حيال صعود دول منافسة، فأصبحت تحافظ بالتفوق العسكري على ما لم تستطع أن تحافظ عليه بوساطة التفوق الاقتصادي والسلطة المعنوية، وراحت واشنطن تتدخَّل في حروب متتالية وتتَّبع منهجيةً عدوانية ودموية عقب الحرب الباردة، والذي هزَّ صورةَ الغرب وأضعف مكانته في العالم أيضًا، هو فشلُه المستمر في نشر ازدهاره فيما وراء حدوده الثقافية، وعجزه التام عن نَقْل قِيَمه إلى الشعوب الأخرى، فليست خطيئةُ الدول الأوربية أنَّها أرادت أن تفرض قِيَمها على باقي العالَم -كما يرى أمين- بل في " تخلِّيها الدائم عن احترام قِيَمها هي في علاقاتها مع الشعوب المغلوبة."
الشرعيات الضالة
يعتقد أمين أنَّ تقهقر العالم مُرتبط أيضًا بتفتُّت الشرعيات؛ فكثير من دول العالم يحكمها اليوم رؤساء لم يصلوا إلى سُدَّة الحكم عن طريق انتخابات نزيهة، ومن ثمَّ لا يتمتعون بأيِّ شرعية، وهم تحت وصايةٍ دولية هي الأخرى لا تتمتَّع بشرعية.
ويسهب أمين في الحديث عن أزمة الشرعية، وما أطلق عليه "الشرعية الوطنية" في العالم العربي تحديدًا، ويرى أنَّ أزمة الشرعية العربية الحالية قد تبلورت في حقبة جمال عبد الناصر؛ التي أوصلت مسيرةَ القومية العربية إلى القمة ثمَّ إلى الهاوية؛ فبعد أن استعاد العرب نهضتَهم القومية برعاية جمال ورأوا فيه الشخص الذي سيعيد إليهم كرامتهم وأمجاد الزمن الغابر، جاءت إخفاقات جمال المدوية في حرب الأيام الستة وغيرها، لتسلب الشعوب العربية احترامَ ذاتها مرة أخرى، وتُغيِّر إلى أمد طويل سلوكَ العرب ورؤيتَهم إلى عالم مُعادٍ ليس لهم مكانٌ فيه.
إنَّ هذا الحقد على العالم وعلى الذات بحسب رؤية أمين، يُفسِّر إلى حدٍّ بعيد السلوكيات التدميرية والانتحارية التي تطبع بداية القرن الواحد والعشرين.
أمَّا الجانب الآخر من أزمة الشرعية، فهو يتعلَّق بإشكالية "الدور الكروي" للولايات المتحدة المفروض على العالم اليوم، فحين تكون "أصوات المواطنين الأمريكيين الذين يمثِّلون ٥٪ من سكان العالم أكثر تقريرًا لمستقبل الإنسانية كلِّها من أصوات الــ٩٥ ٪ الباقية"، فذلك يعني أنَّ ثمَّة اختلالًا في الإدارة السياسية لشؤون الكرة، وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ الولايات المتحدة مستفيدة من هذا الاختلال، ولكنَّها ضحيتُه أيضًا؛ لأنَّ شعورها أنَّها تستطيع أن تفعل كلَّ ما تريد على الساحة الدولية دون محاسبة كوْنها دولة عظمى قد دفعها إلى ارتكاب حماقات دموية ما كانت ترتكبُها في زمن الحرب الباردة، ويتساءل أمين عمَّ إذا كان اختلال سلوكيات "سيدنا الأوحد" قد سبَّب اختلالًا للنظام الاقتصادي الكروي أيضًا.
التقنيات الخيالية
يؤكد أمين أنَّه ليس من "أولئك الناقمين على الزمن الحاضر"، بل هو مفتون بما وصل إليه عصرنا من اختراعات وتطورات في المجالات كافة، ولكنَّ الإشكالية عند أمين تَكمُن -كما أشار في الفصل الأول من الكتاب- في "الهوة المتزايدة عمقًا بين تقدُّمنا المادي السريع؛ الذي يزيدنا خروجًا عن عزلتنا كلَّ يوم، وبين تقدُّمنا الخُلقي البطيء الذي لا يَسمح لنا بأن نواجه العواقب المفجعة لهذا الخروج من العزلة"؛ ولذلك يسعى أمين هنا إلى طرح حلول من أجل مواجهة عصرنا الجديد، ويؤكد أنَّه لا يمكن أن يكون الحلُّ في الرجوع السَلَفي إلى الأخلاقيات السابقة، وإنَّما في تبنِّي سُلَّم جديد للقيم؛ يُؤسَّس على أولوية الثقافة التي تُمكِّننا من أن نتعامل تعاملًا أفضل مع عالمنا وبيئتنا، وتزوِّدنا بالوعي الفكري والخُلقي اللازمَين للتعامل بسلام مع التنوع البشري، وقد أكَّد أمين أنَّ القرن الواحد والعشرين "ستنقذه الثقافة، أو سيغرق".
معلومات الكتاب:
الكتاب: اختلال العالم.
الكاتب: أمين معلوف.
ترجمة: ميشال كرم.
عدد الصفحات: 311 صفحة.
تاريخ النشر: الطبعة الأولى ٢٠٠٩.
دار النشر: دار الفارابي.