مراجعة كتاب (حليب أسود): قصة الأنثى مع الأطفال والكتب
كتاب >>>> روايات ومقالات
و(حليب أسود) شبه سيرة ذاتية للروائية شافاق، تشاركنا فيه قصتها كونها كاتبة وامرأة طموحة خاضت مرحلة الأمومة، وتبدأ شافاق بسرْد حكايتها منذ أن كانت الأمومة بالنسبة إليها فكرةً نظرية إلى أن وجدت نفسها في مواجهة مباشرة معها، والذي صعَّب عليها أولى تجاربها في الأمومة أنَّها ترافقت مع اكتئاب ما بعد الولادة، وهو الاضطراب النفسي الذي يصيب بعض النساء في الأسابيع الأولى ما بعد الولادة، وهذا الاكتئاب شكَّل لها دافعًا لتشارك قرَّاءها تجربتها علَّ الكتابة تساهم في شفائها منه.
"ربما أقدر، لو بدأت الكتابة عن تجربتي هذه، أن أجعل من حليبي المُسودِّ، حبرًا، فللكتابة دومًا تأثيرٌ ساحر يشفي روحي، وبها أقدر أن أشقَّ طريقي خارجةً من هذا الاكتئاب."
ويتلمَّس القارئ منذ البداية صعوبةَ تقبُّل شافاق لفكرة الأمومة؛ إذ إنَّها -ومنذ مطلع شبابها- قد قرَّرت أن تكون كاتبةً، وأن تكرِّس وقتها وحياتها لخدمة هذا الهدف، فإذا بها تقف حائرةً أمام فكرة الأمومة وهي في منتصف ثلاثينياتها؛ فهي ترغب في أن تكون أُمًّا، ولكنَّها في الوقت ذاته تشعر بأنَّها مهمة صعبة تتطلب كثيرًا، فكيف تكون أُمًّا وكاتبة في آن؟ فتقلِّب شافاق السؤال في رأسها، ويعجُّ فكرها بعشرات الأسئلة المُشابهة التي تلاحقها وتؤرِّقها.
"هناك سببٌ يجعل ما لا يحصى من النساء يقلن إنَّ الأمومة هي أحنُّ ما جرى عليهنَّ في الحياة، وأنا أتفق مع ذلك من أعماق قلبي، غير أنَّ المرأة لا تصير أمًّا بمجرد الإنجاب، بل عليها أن تتعلَّم الأمومة، إنَّها معرفة، يأخذ استيعابها عند البعض أطول من الآخرين."
وفي معرض اضطرابها وصراعها، تتحرَّى شافاق سِيَر الكاتبات على مرِّ التاريخ، منذ القرن الثامن عشر وحتى عصرنا الحاضر، فتستعرض لمحةً من حياة كلٍّ منهنَّ، وتركِّز على كيفية تعاملهنَّ مع الأمومة خصوصًا: هل أنجبن؟ كيف استطعن الكتابة والتربية في آن؟ هل كُنَّ راضيات عن دورهنَّ كونهنَّ أمهات؟ هل لعبنه كما يجب أم أنَّ الكتابة كانت أولويتهنَّ فجعلتهنَّ يقصِّرن في حق أطفالهنَّ؟ هل أغنت الأمومة تجاربهنَّ وأثرت في غزارة ما يكتبنه وعمقه إيجابًا؟
وفي مساءلتها لمثيلاتها من الكاتبات، يظهر لنا -كما يظهر لها- كيف أنَّ كل كاتبة شقَّت طريقًا يختلف عن الأخرى، وأنَّ كلًّا منهنَّ قاربت الأمومة من زاوية مختلفة.
وبموازاة مطالعتها لسير الكاتبات، تحاول شافاق الغوص داخل نفسها، نحو عالمها الداخلي، وهناك تعرِّفنا شافاق إلى عدة نساء صغيرات، أو حريمٍ كما تسميهنَّ، وكل واحدة منهنَّ تمثِّل جانبًا من جوانب شخصية شافاق؛ فهناك المرأة العمليَّة القصيرة، والمرأة الطموح التي يؤثر فيها تشيخوف، والمثقَّفة، والسيدة الدرويشة صاحبة الإيمان الصّوفي.
وتستمع شافاق لأصواتهنَّ في داخلها، وتصغي إليهنَّ، ولكنَّها تكتشف -مع مرور الوقت والتجربة- أنَّ هناك نساءً أخريات في داخلها لم يسبق لها أن أعارتهنَّ شيئًا من الاهتمام.
"أينما تحلُّ غيمةٌ مثقلة بالصمت، يمسي الزعيق الذي بداخلي مسموعًا أكثر، ويطفو إلى سطحي صوتًا صوتًا، ويفرحني إيماني بأنَّني أعرف هؤلاء الحريم اللواتي بداخلي.."
فهل بالغت شافاق في تبسيط الفكرة؟ ربما، ولكنَّها استطاعت استخدام هذه الفكرة المبسَّطة عن النساء المتنوعات داخلها إلى حدِّ التناقض لتُظهر لنا حقيقة الصراع داخلها وانعكاسه على قراراتها المصيرية.
فتقدِّم شافاق للقارئ بذلك -رجلًا كان أو امرأة- نموذجها الخاص في التعامل مع الأصوات المختلفة التي تسمعها والتي تصل إلى النشاز أحيانًا.
"فبينما تريد الآنسة العمليَّة أن تكسب تحديات الحياة بطريقة براغماتية، تهتم الآنسة المثقفة بالحلول السهلة؛ تريد الأولى أن تنتهي من الأمور بأسرع وقت ممكن، بينما تهيم الأخرى بالتفاصيل، مُعقدةً الأمور، ومُفلسفةً كل شيء، وحيث تفضِّل الأولى الوضوح والدقة، تفضِّل الثانية الغموض والرمزية."
وفي النهاية، نجد أنَّ الصراعات التي يواجهها الإنسان في مواقف حياته المختلفة ما هي إلا نتيجة لتشظِّي انتماءاته وأهوائه الداخلية، وما السلام الداخلي المنشود إلا تلك القدرة على المواءمة والمصالحة ما بين هذه الانتماءات والأهواء، وهذا ما توصَّلت إليه شافاق في ختام مذكراتها.
"كانت تلك غلطتي وأعتذر عنها منكم جميعًا، منذ الآن فصاعدًا، لن أقوم بقمع أيٍّ منكن، سيكون لكل واحدة منكن فرصةٌ للحديث كالأخريات تمامًا."
معلومات الكتاب:
شافاق إليف، حليب أسود، ترجمة: أحمد العلي، مسكيلياني للنشر والتوزيع، ط1، 2016.
عنوان الكتاب: حليب أسود.
المؤلف: إليف شافاق.
المترجم: أحمد العلي.
نُشر عبر: مسكيلياني للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2016. (تاريخ نشر النص الأصلي 2007)
عدد الصفحات: 400 صفحة.