مراجعة رواية (المرأة العسراء) حكاية امرأة رأت في عتمة الوحدة منفذ الحياة
كتاب >>>> روايات ومقالات
يعرف القرّاء العرب بيتر هاندكه من خلال مجموعةٍ قليلةٍ من الأعمال الأدبية التي تُرجمت له بخجل دون أن تصير محاولاتٍ جادةً لتعريف العرب بهذا الكاتب الكبير الذي قضى جلّ سنوات عمره التي تخطّت التسعين منهمكًا في التأليف والترجمة، لكنه لم يكن يعيش في (برجٍ عاجيٍّ) بين كتبه كما يدّعي كلَّ مرّة؛ فأفكاره وتدخلاته السياسيّة وتصريحه العلني بتأييد صرب البوسنة في حرب البلقان في تسعينيات القرن الماضي أسقطته من اعتبارات الجوائز العالمية ونحَّت اسمه عن أبرز التكريمات الأدبية المرموقة، وما زاد في الطين بلّة، أنّ رئيس صربيا المتهم بجرائم حرب قد ذكر اسمه في خضمِّ المحاكمات والمرافعات، فاضُطرت لجانٌ عدّة إلى سحب جوائز كانت قد كرّمته بها مسبقًا.
إنّ خوضه في معترك نقاشاتٍ سياسيّة شائكة جعله قبلة العديد من الاتهامات فزاد التضييق عليه وإرغامه على عزلةٍ لا يتمناها، وحتى أيامٍ قليلة سبقت إعلان جائزة نوبل كان اسمه خارج جميع التكهّنات، ولم يرد في أي قائمةٍ قصيرةٍ وضعتها كُبريات الصحف والمراكز البحثيّة، فجاءت جائزة نوبل مفاجأةً صادمة للوسط الأدبيّ برمّته ومنقذًا ينتشل الكاتب الكبير من الوحدة البائسة التي فُرضت عليه أواخر أيامه.
وتتجلى تلك الوحدة واضحةً في أحد أهم أعماله الأدبية النفسيّة؛ رواية (المرأة العسراء)، التي تصنّف على أنّها كافكيّة الاتجاه وذات صبغةٍ عبثيّة، تحكي الرواية قصة (ماريان) التي طلبت من زوجها (برونو) أن يتركها، هكذا دون مقدماتٍ وبلا مبرّرات، هي فقط اختارت لنفسها الوحدة وهي في عمر الكهولة مع ابنها الصغير ذي الثماني سنوات، وعلى الرغم مما يعنيه ذلك للإنسان العاقل من شيخوخةٍ مقيتةٍ ستتربص بها في خريف عمرها، والمعارضة الدؤوبة من زوجها الوفي، لكنَّها أصرّت على موقفها.
"- المرأة: خَطَرَ لي فجأةً إلهامٌ -هذه الكلمة أيضًا جعلتها تضحك- أن تذهب عنّي وتتركني لوحدي. أجل هذا ما أردتُ قوله يا برونو، اذهب عني. اتركني لوحدي."
لم يضق صدر زوجها منها، ولم يحملها على نشر ما أرادت طيّه في قلبها، بل بقي يحترم قرارها وداوم على زيارتها غِبًّا لعله يُخرجها من كرب الكتمان، وهكذا وحتى نهاية الرواية لم يُعنى الكاتب بتقديم سبب لقارئِه، هي القطيعة فحسب، وليس لأحدٍ الحقّ في أن يطالب البطلة بمبرراتٍ تكشف نزعتها إلى الوحدة.
"سأل الزائر: ألا يساعدك أحد؟ لا، أجابت. الرجل الذي أحلم به سيكون ذلك الذي يحبّ فيَّ المرأة التي لم تعد تابعةً له. - وماذا ستحبّين فيه؟ - هذا النوع بالذات من الحبّ."
ثمّ تُمعِن الرواية في فصول العزلة عندما يزور والد (ماريان) ابنته، وهو كاتبٌ لايقلّ عنها وحدةً وانزواء، وقد اعتزل الكتابة أو اعتزلت عنه بعدما أفقدته الوحدةُ الدافعَ والهاجس، وهكذا يزاولُ الجلوس، يرتقبُ الليل، فإذا جنّ عليه تسمّر في مكانه متأمّلًا قائلًا في نفسه: " لا يزال الليل في بدايته".
"أنا وحيدٌ جدًّا، حتى إنّني في المساء وقبل أن أنام لا أجد أحدًا لأفكّر فيه، فقط لأنّني طيلة النهار لم أكن برفقة أحد، كيف يمكن أن نكتب إذا لم يكن هناك أحدٌ نفكر به؟".
يقدّم الكاتب صورةً غير مطروقةٍ عن الحب، ويفصل بينه وبين الطمأنينة ويجرّده من عنصري الصلاح والمنفعة؛ فبطلة الرواية (ماريان) تريد حبيبًا يسمع صوتها من وجيف القلب، ويفهم حديثها دون نطق، ويعي كلامها سواء قالته بفمها أم بعينيها.
"- ألا ترغبين أن يكون لك صديقٌ روحًا وجسدًا؟. - صرخت المرأة: بلى، بلى! ولكنّي لا أريد أن أعرف من هو، حتى ولو أمضيتُ طيلة الوقت برفقته، لا أريد أبدًا التوصّل إلى معرفته. ومع ذلك سأحبُّ شيئًا ما."
يدهشنا الكاتب بقدرته التعبيرية وتمكّنه التامّ في وصف أدق تفاصيل الطبيعة، ويقدر بأسلوبه المرن والمتقن أن يُشعر القارئ وهو في بيته بلسعة البرد ولفح نسمات الريح المُشبعة بنُدَف الثلج الناعمة، فيتدثّر ويروم الدفء وهو يطالع صفحات الرواية.
هذه اللغة الساحرة والمهارة في تخيّر الألفاظ وتوظيفها هما ما أشاد به سكرتير الأكاديمية السويديّة عند الإعلان عن اسم الكاتب بيتر هاندكه ونيله جائزة نوبل التي تعدُّ أعظم شرفٍ أدبيّ وفكري في عصرنا الحالي.
معلومات الكتاب:
هاندكه، بيتر. المرأة العسراء. المترجم: ماري طوق. بيروت: دار الآداب. ط١ 1990. عدد الصفحات 86.