مراجعة رواية (خائن الحقيقة): حكاية أيادٍ ملطخة بالدم تعبث بالإنسانية والأوطان
كتاب >>>> روايات ومقالات
في حبكةٍ مشوِّقة تدور أحداثها في بلدين متباعدين تُضيف الكاتبة الدكتورة (رغد شيخ شعبان) تحفةً أدبية جديدة إلى المكتبة العربية، وهي رواية يمكن القول إنِّها جديدة ومختلفة في مضمونها، والجِدّة والاختلاف فيها ينبعان من أنَّها لا تتناول الحب إلا حدثًا عارضًا ضمن أحداثها المتشابكة والمليئة بالغموض والألغاز.
تحكي الرواية قصة الشابة الفتيَّة (حنين) التي قاست على الرغم من صِغر سنِّها صنوفًا من العذاب النفسي، وهو العذاب نفسه الذي عانت منه أمُّها أيضًا؛ وهذا ماجعل العلاقة بينهما مشوَّهة ومضطربة، وليست كأيَّة علاقة تربط أمًّا بابنتها، ومع تقدُّم فصول الرواية سنُفاجأ بازدياد هذه العلاقة انحدارًا وسوءًا وصولًا إلى الإهمال التام وما يعقب ذلك من إيذاءٍ جسدي لإحداهما أو كليهما معًا.
"أين أبي؟! وما سرّ أمّي التي تكرهني...، وأسئلة حنين الكثيرة...كانت حنين ترفض الاعتراف بالعلاقة التي تجمعها بأمّها لولا الشبه الكبير بينهما!، مضى على هذه الحيرة والتساؤلات الكثيرة الغامضة ثمانية عشر عاما!"
وقد زاد الوضعَ سوءًا غيابُ الأب (وليد) عن هذه الأسرة، إضافةً إلى الحيرة والالتباس الكبير الذي غلَّف رحيله، ممَّا جعل الأمر قابلًا للانهيار في أيَّة لحظة، ووحدها الجدة العجوز (هالة) كانت صمَّام الأمان الذي مكَّن ابنتها وحفيدتها من العيش في مكان واحد، ولكن؛ سنكتشف بعد ذلك بقليل وفي الفصول المتلاحقة أنَّ الأمور ليست على ما يرام، وأنَّ الشيفرة الغريبة المليئة بالحروف والأرقام والطلاسم التي تحتفظ بها الجدة لا تبشِّر بالخير، وأنَّ وراءها شيئًا مريعًا ستكشفه الفتاة (حنين) بمساعدة واسعة من صديقتها (الدكتورة لندا) وثلَّةٍ من أصدقائها المتفانين، وأمَّا الذي سيزيد القصة غموضًا هو علاقة هذه الطُلسمية التي تخفيها الجدة بحادثة غياب زوج ابنتها ووالد حنين (وليد)، ثمَّ المحاولات المتكررة لاغتيال (حنين) ووأد قناصٍ مجهول لبراءتها، والسؤال الكبير الذي سيتولَّد عند القارئ: ما الذنب الذي اقترفته هذه الفتاة لتدفع حياتها ثمنًا له؟!
"ما الذي جرى بالضبط؟؟...هل قتلته أمي ياترى؟؟!... وجدتي شاهدةٌ على جريمتها ثم دفنتاه في مكانٍ ما، فبقي شعور الذنب ملازماً لأمي ومخلفاً هذا الحطام الحي الذي لايفعل شيئاً سوى التنفس والطبخ وتنظيف البيت؟!..."
لا تنتهي الرواية عند هذا الحد، ففي اليابان وبعيدًا عن هذا التعقيد كله في حياة هذه الأسرة، تحدِّثنا الكاتبة قصة أصدقاء أربعة استطاعوا في أثناء إقامتهم القصيرة نسبيًّا في هذه الإمبراطورية البعيدة إثباتَ وجودهم عن طريق معملٍ ينتج محرِّكات بمواصفات قياسية، وهو الذي جعل بعض الشركات اليابانية تهتم بالتعاون معهم، ولكنَّ المفاوضات لم تكن باليُسر الذي يمكن أن يتوقعه القارئ، بالإضافة إلى أنَّ فريقَي التفاوض لديهما من الأسرار ما يكفي لنعرف أنَّهما كانا بوادٍ وشفافية التعامل بوادٍ آخر، وأنَّ سماحة الوجوه ودماثة المبتسمين على طاولة المفاوضات تخفي وراءها أنيابًا توشك أن تنهش لحم الفريق الأضعف.
"فقط إصرارهم وجهدهم وأملهم ما منحهم شرف طرق أبواب الشهرة العالمية، لكن...هل ستُفتَح لهم هذه الأبواب ويستقبلهم العالم المتطور بالترحيب والأحضان؟!"
وبعد تشابك هذه التطورات كلها واضطرامها ودخول منظمات دولية تحترف الإجرام على خط سير الأحداث، يظنُّ القارئ أنَّ خيوط اللعبة تفلَّتت من يد الكاتبة وأنَّها ورَّطت نفسها في تصاعد هائل في المجريات، وصار من العصيِّ عليها أن تجلوَه لنا، وأن تربط معه القاصي بالداني وتفسِّر الأحداث كلها تفسيرًا منطقيًّا يقبله العقل والمنطق، ولكنَّها وبأسلوبٍ مفعمٍ بالبساطة والدهشة تطرح لنا بالحجة والبيان حلولًا للأحداث الناشبة كلها، وتختم روايتها على ذلك.
لقد أقامت الكاتبة روايتها بقالب بوليسي تشويقي مُستخدمةً لغة سهلة طيِّعة، وقد أقلَّت من استخدام التشابيه المنمَّقة والمحسنات البديعية قدر الإمكان لعدم الحاجة إليها، ومن الجدير ذكره أنَّ الكاتبة تركت شخصياتها كلها دون وصفٍ دقيق لملامحهم وأوصافهم البدنية تاركةً خيال القارئ ليرسم الشخوص كما تميل إليها نفسه ويرتاح إليه خاطره، وينطبق ذلك على الأماكن التي دارت في معظمها أحداث الرواية الكثيرة.
إنَّ رواية (خائن الحقيقة) إنجازٌ قويٌّ لكاتبة جديدة على الساحة الأدبية استطاعت أن تقدِّم إلينا مادةً دسمة فيما يتعلق بخيانة الأهل والأصدقاء، وعلى هامشها حكاية خجولة عن الحب الصادق الذي لا تهزُّه عواصف الحروب والغياب.
معلومات الكتاب:
شيخ شعبان، رغد، خائن الحقيقة، سورية، مكتبة الفرقان للنشر، ط١، 2017، عدد الصفحات 307