الموسيقا ....تطور سيمفونية الألوان فنياً وعملياً من وجهة نظر فلسفية 2
الموسيقا >>>> سلسلة نظريات الموسيقا والهارموني
بداية من فكرة أفلاطون عن أسطورة إيروس إله الحرب، نرى أن الموسيقا تتحدث عن متعة الحب؛ وكونها الحافز الأول الذي يدفعنا نحو المعرفة والتفاهم.
ثم في عصر النهضة وُضعت نظرية الترابط الضيق بين العاطفة والصوت المنظم، وتطورت فيما بعد في عصر الباروك؛ إذ يكون الشكل النهائي والتركيبي للموسيقا مرتبطاً بالفكرة العاطفية، وبهذا يكون تقييم تطور الأحداث الصوتية وفقًا للمتغير الزمني؛ أي يترافق الوقت مع الموسيقا، والطريقة التي يجب أن تظهر بها نفسها (مثل أي واقع حي، في دائرية الوجود).
الموسيقا هي مجموع الإيقاع، واللحن، والتناغم، والصوت ولكنها في الوقت نفسه تعبُرُ حدود هذه الكلمات وتتخطاها إلى بُعد آخر، فتكون قيمة النتيجة النهائية أكثر شمولية من تلك الخاصة بالأجزاء الفردية عن طريق استخدام مصطلحات الجشطالت " Gestalt"، التي هي أساس الكثير من تحليلات علم النفس الموسيقي الحديث، والتي تعبّر عن فكرة "الكل كله أكثر من مجموع أجزائه"، والكل (أي الرغبة في تناول المصطلحات والمفاهيم التي ذكرناها والرغبة في ربطها بمصفوفة الجشتالت التي قُدمَت حديثًا).
التوليف الهيغلي نسبة إلى الفيلسوف الألماني جورج هيغل " George Hegel " يُحدَّد في العملية الموسيقية الإبداعية عن طريق إعادة البناء النفسي الذي يتطور في الدماغ نتيجة مجموعة من الاهتزازات والذي يحدث مع مرور الوقت.
ينبعث الجسم المرن الذي يهتز بالحركة التوافقية من سلسلة كاملة من التردّدات الأساسية والتناغمية، ثم يترجمها الدماغ إلى صورة سليمة. إنه تمثيل يسير في اتجاه العملية المادية لإنتاج موجة الاهتزاز ونشرها، وهي موجة تتحول على نحو نهائي إلى صوت له خصائصه الخاصة في أذهاننا، لذلك فإن الموسيقا هي اهتزاز للجسم يصبح تمثيلًا فكريًا، وصورة داخلية له، أو حتى هيكله العاطفي.
إذ يعترف الفيلسوف النمساوي رودولف شتاينر " Rudolf Steiner" بأن إبداعات الإنسان ما هي إلا بصمة للعالم الروحي، ويؤكد أن تصرفات الإنسان -عن طريق الفنون والموسيقا على نحو خاص- هي إدراك الواقع المادي الذي يسكن في الروح في أعماق الأنا، على المستوى الجسدي.
ومنه نجد أن الموسيقا -من هذا المنظور- هي وسيلة لمعرفة الحوار مع روحانيتنا، فهي "صوت الروح". بالعودة إلى موسيقا شوبنهاور نرى مكانتها الخاصة للغاية بين الفنون؛ لأنها الوحيدة التي تعبر عن الإرادة المباشرة، فهي نوع من انبثاق القوة التي هي أساس الواقع الحقيقي الذي يمنح الشكل الصوتي إمكانية الولوج إلى أعماق حميميَّتنا، وهي لغة نموذجية تعبر عن المفهوم بعبارات غير فلسفية بالضرورة متحدثةً إلى الروح مباشرة، والتي كانت تُسمى قديما بـ"angelica farfalla" أو الملائكة الإنجيلية كما وصفها دانتي؛ إذ يصور رسم الموسيقا بكونه فعلاً يغذي وضعنا العاطفي في العيش أو فنًا يتحدث إلى منطقتنا العاطفية ومعناها، لذلك فإنه يعرف كيفية تحرير العديد من الصور فينا، في نوع معين من تدفق الأفكار، لكن يمكننا أن نقول إن الأهمية المادية لتلك الأجزاء التي تشكل الخطاب الموسيقي تُترجم إلى روحانية الكل مولدةً حواراً بين الأجزاء، مانحةً إيانا القدرة على الدخول في التعاطف مع داخلنا.
فالموسيقا أدلة الرابط بين المادة والروح، وبين الروح والمادة بقدرتها على نقل الحركة الاهتزازية على المستوى المادي، لتوجَد لاحقاً بوصفها واقعًا أثيريًا مماثلًا لحقيقة الفكر والفكرة والحلم في آن معًا.
ونلاحظ أنه عند تأليف الموسيقا أو الاستماع لها، يصبح الوقت ذا معنى، مشحونا بإحساس شخصي يسكن في مساحة مجردة، وصورة مكان يتآمر فيها الجميع حتى أعمق الأجزاء. هناك عملية تحدث بفضل الموسيقا، وتتيح لنا أن نجعل للوقت مساحة روحية.
يعمل تدفق الوقت -المليء بالاستماع أو العمل الموسيقي- على تسامي الصوت المادي في تمثيل مساحة الصوت في مكان مصنوع من الأحاسيس والصور؛ إذ إنه عند تناولنا تفسيرَ جوهر الموسيقا التي طورها شتاينر -وفقًا لوجودها في الحلم قبل أن تترجم نفسها إلى المستوى المادي- يمكن فهم هذه المساحة الصوتية على أنها نوع من الواقع يشبه الحلم إلى حد كبير، ضمن بُعد روحاني يعيش في أجسام خفية.
من حديثنا السابق نجد أن الموسيقا فن يفسر الواقع المادي لإعادة توصيله بالواقع الروحي، وهي خيمياء من الأحداث الصوتية التي نتمتع بها في فضاء الصور لدينا، وهي نوع من المكان غير الموضعي الذي يتبع القوانين الطبيعية للعالم الداخلي ليجعل من جسدنا أداةً للحوار بين العالمين، أو يجدر بنا القول إنه عن طريق الجسم (المادة) نرى الصوت الذي يتحول إلى تمثيل نفسي وعاطفي (روح)، ليجسد تفاسير فلسفية عديدة مقترحة، وهذه العملية هي التي تجعل من الممكن تحويل البعد الزمني الخارجي للعالم المادي إلى بُعد مكاني داخلي للعالم الروحي.
وإن المكان والزمان مترابطان على نحو خاص في تمثيلنا الشخصي للموسيقا، فنحن نرسم شريط الصوت لدينا تدريجيا بوصفه ممثلا داخليا، وموضعا للمشاعر، فهي البعد غير الملموس للحياة الموسيقية؛ إذ يشارك كامل الجسم البشري في هذه العملية، التي تنشأ من مجموعة من الاهتزازات الصوتية بتوترات مختلفة لتجعل من التجربة الموسيقية تجربة كاملة، لأنها تضع كياننا في حالة من الاهتزاز والرنين، ففي حين يُدرك الصوت من الجلد والأذن، تعمل الأذن على تحديد مصدر الصوت، مقدمةً فكرة اتجاهية -أي مكانية- عن الأحداث من حولنا (والإشارة إلى المخاطر) في تصور لا إرادي، على عكس الحواس الأخرى إذ لا يمكن للمرء أن يتوقف طوعًا عن الشعور.
وينطبق الشيء نفسه على عملية التصور لمسياً، أي ذلك الذي يحدث عن طريق الجلد، هذا التصور له أهمية أساسية في حالة الصمم ليمكننا أيضًا من وجهة النظر الفسيولوجية من تحديد الاعتماد الطبيعي المحتمل بين البعد الصوتي الزمني والبعد الإدراكي المكاني.
المصادر:
1- هنا
2- هنا
3- هنا
4- هنا