مراجعة رواية (جسر بنات يعقوب): قضيةٌ يتناولها الأدب
كتاب >>>> روايات ومقالات
فقد بنى الكاتب روايته (بتكنيكٍ) غير مطروق في الأدب العربي كثيرًا؛ إذ أوهم قارئه أنَّه مجرد وسيط بين جدِّه الرابع عشر وبين القارئ، وأنَّ هذه النصوص الموروثة كابرًا عن كابر لم تطالها الأيدي العابثة، بل فزع إليها الكاتب بالتشذيب والتهذيب مُجهضًا ما خَرِب من نسيجها الرهيف، ليقدِّم لنا فحواها كاملة التفاصيل والشروح.
وقد عزَّز الكاتب متن الرواية بفقرات وهوامش شارحةٍ سمَّاها (حاشية، تفصيل صغير، تذييل)، وهذه الهوامش تقدِّم شروحًا إضافية لمواقف بنى عليها الكاتب تفاصيل روايته وانعطافات حبكتها القوية، وهي تأتي فواصل استراحةٍ وإضافات داعمة للنص في آن.
تحكي الرواية قصة (يعقوب) وبناته الثلاث (جوديت وميمونة ودينة) الذين جاؤوا من مبعدةٍ أطالوا فيها السفر، ثمَّ ألِفوا قرية (الشماصنة) فحطُّوا رحالهم عند جسرها العتيق، وما إن أقاموا خيمتهم للبيات انتاب أباهم بكاءٌ وعويل، وأخبرهم أنَّ (الربَّ) لن يبارك له مقامه هذا حتى يضحِّي بابنته الوسطى (ميمونة)، فخافت الفتيات وجزعن الجزع كله، وبِتن ليلتهنَّ يُقنعن أباهنَّ أن يختار أُضحية غير أختهنَّ الحبيبة، وبعد نشيجٍ طويل من البكاء والهمهمات الدامعة قام يعقوب من هجعته وأخذ حماره العزيز إلى المذبح الذي أعدَّه من قرمة البلوط ونحره هناك فداءً لابنته، وقُربةً إلى الله!.
وفي أثناء مغيب يعقوب في القرية تتعرَّف الفتيات إلى (رحمون) الموفور العافية، فيتناوبنَ سرًّا على مقارعته كؤوس النشوة المُترعة، ويجعلن من نبعة ماءٍ ساخن ملاذًا للقاءاتهم الطافحة بالحب والدلال، فهنَّ يقدمن له أجسادهنَّ المصقولة كالمرايا وهو يهديهنَّ اللذة على نحوها الأتمِّ الأكمل، وبقين على هذا الحال زمنًا، وكل واحدةٍ تأتيه لترتمي بين ذراعيه طرية مطواعة، وهو بحمحمته اللاهبة يوقد تنورها شديد اللهفة والعذوبة.
ويلتقي (يعقوب) بصديقه القديم (سليمان العطرة) الفاحش الثراء، ويقنعه ببناء خانٍ كبير بجانب جسر النهر، ثمَّ يجعلانه جسرًا متحركًا لا يعبره إلا من يحلُّ عقدة كيس دنانيره، وهكذا يصير الجسر والخان مصيدتي (يعقوب) و(سليمان) للمال، ويصيران معًا أغنى أهل البلدة وما حولها، ولحرص الرجلين على هذه الشراكة قرر (يعقوب) تزويج ابنته (جوديت) لـ(سليمان) الذي وجدها فرصةً سانحة ليُحيي بها وبجمالها الفاتن أعضاءً من جسده كاد أن يدركها العطب.
وقد نحَّى (يعقوب) و(سليمان) المروءةَ والأخلاق جانبًا سعيًا إلى السيطرة على موارد المنطقة، وسكتا عن بيع الفتيات الثلاث أجسادهنَّ البضة لطالبي اللذة من عُمَّال الخان ونزلائه، فسلَّمن أجسادهنَّ وراء السبخ ومكان الطبخ، فيطفئن لهيب المهتاج خلف الأحراج، وفوق الأدراج دون مُداراةٍ أو إحراج، فإذا جاءهم الغرُّ المبتدئ يرتمين في حضنه ضاحكاتٍ متغامزات ويجعلنه يتحرَّش فوق المفرش غير عابئاتٍ بمن يرى ويهمس، وكلُّ همهنَّ محصورٌ في جمع المال وتكديسه حتى كبُر عندهنَّ صندوق الغلة وهنَّ مع أبيهنَّ طيَّ نشوة شاسعة.
ولكنَّ السعادة لا تدوم، والمُتَع والليالي الأنيسة الحاضرة لا تلبث أن تضع ذيلها في فمها وتمضي، وهكذا طرق الهم والغم باب الفتيات فقلَّت شهوتهنَّ تجاه الحياة، وتراخت أجسادهنَّ الوارفة، وبهت الجمال الآسر، وتكالب على كنوزهنَّ وحوش الرجال، ثمَّ عادت بلدة (الشماصنة) إلى مواصلة الحياة وكأنَّ ما حدث لم يحدث أصلًا.
لا يمكن عدُّ رواية (جسر بنات يعقوب) روايةً عادية، فهي تستعيد بتفاصيلها وشخوصها -حسبما يرى الباحث الدكتور (نضال الصالح) في تقديمه للرواية- قصةً تاريخية عن مأساة فلسطين وكثرة الطامعين فيها عبر العصور، فربما يمثِّل الجسر فلسطين، في حين أنَّنا نرى في (يعقوب) وبناته الصهاينة المحتلين، أمَّا (سليمان) فيرمز إلى بريطانيا التي منحت لهم الوعد المشؤوم، و ربما كانت (العجوز الشمطاء) التي ترغم الناس على مساعدة (يعقوب) وبناته تلميحًا لأمريكا أو اللوبي الصهيوني الداعم لنشأة هذا الكيان الدخيل.
إنَّ تداعيات أحداث الرواية وإسقاطها على الواقع الفلسطيني يضعها في سياقها الصحيح، وتعيد لفت نظر العرب الذين انشغلوا بأنفسهم وما يجري في ديارهم إلى قضيةٍ مركزية في قلب الوطن العربي؛ قضية (زهرة المدائن) ذلك الجسر الواصل بين مشرق الوطن ومغربه، والذي يُخشى عليه في هذا العصر العربي الرديء أن يصيرَ (جسر بنات يعقوب).
معلومات الكتاب:
حميد، حسن. جسر بنات يعقوب (2019). دمشق: دار المفكر. عدد الصفحات 307.