مراجعة كتاب (الوطن الصعب الدولة المستحيلة): تحولات لبنان في النصف الثاني من القرن العشرين
كتاب >>>> الكتب الأدبية والفكرية
وفي هذا السياق، أجرى الصحفي والإعلامي اللبناني (طانيوس دعيبس) حوارًا شاملًا مع شخصيتين لبنانيتين تمثل كلٌّ منهما قطبًا من أقطاب الصراع الأساسي، هما (كريم مروة) و(كريم بقرادوني)، ثم نشر الحوار في كتاب (الوطن الصّعب الدّولة المستحيلة) عام 1995.
(كريم مروة) المولود عام 1930؛ سياسي وكاتب لبناني، يساري العقيدة ومن أركان (الحزب الشيوعي اللبناني) آنذاك.
ومساهماته متعددة وأساسية في طرح التجديد الفكري والسياسي والتنظيمي داخل الحزب الشيوعي وعلى المستويين اللبناني والعربي.
أما (كريم بقرادوني) المولود عام 1944، فهو سياسي ومحامي لبناني؛ أدى أدوارًا بارزة بصفته عضوًا في المكتب السياسي لـ(حزب الكتائب) وبصفته أمينه العام في التسعينات، بالإضافة إلى كونه نائبًا لقائد (القوات اللبنانية) في أثناء الحرب، ويُعدُّ من المساهمين الأساسيين في صياغة أفكار اليمين اللبناني.
ينطلق الحوار من ميثاق 1943، المعروف بـ(الميثاق الوطني)، والذي اتفق عليه اللبنانيون عندما نال لبنان استقلاله من الانتداب الفرنسي.
ويحلِّل كلاهما الميثاق وصيغته والظروف التاريخية التي أدت إلى وضعه، ثم ينظران بعين نقديةٍ إلى الالتباسات التي تضمنها والتي أثرت -ولا شك- في مرحلة ما بعد الاستقلال.
فيرى (كريم بقرادوني) أنَّ هناك أسبابًا داخلية وخارجية أدت إلى عدم نشوء دولة حقيقية بعد الاستقلال.
فالسبب الداخلي الأساسي -حسب رأيه- كان تعدُّد ولاءات اللبنانيين، وهو يفرق بدقةٍ ما بين الانتماء والولاء، موضحًا إمكانية تخطي الانتماءات المتنوعة للبنانيين إن هم اجتمعوا على الولاء للوطن، فيقول: "الانتماء معطى موروث يولد مع الانسان في حين أنَّ الولاء خيار وفعل التزام.. يمكن للإنسان أن يكون متعدد الانتماءات كانتمائه إلى عائلةٍ ودينٍ ومهنةٍ وحزب، ولكن لا يقدر إلا أن يكون أحادي الولاء. الانتماءات كثيرة أما الولاء فللوطن دون سواه. وهكذا تبرز الوطنية قفزة نوعية في تخطي العشائرية والطائفية والحزبية".
أما العوامل الخارجية فتنوعت، وأهمها كان نشوء دولة إسرائيل، والذي أدى إلى صرف النظر عن بناء الدولة وضاعف هشاشة الانتماء الوطني.
ينتقل الحوار بعدها إلى مرحلةٍ أساسية في تاريخ لبنان الحديث، ألا وهي (المرحلة الشهابية)، والتي بدأت عام 1958 مع الجنرال (فؤاد شهاب) رئيسًا للجمهورية.
وقد اتفق كلا (بقرادوني) و(مروة) على أنَّ الحكم الشهابي أجرى تغييرات جذرية وحقيقية في بناء مؤسسات الدولة وإداراتها، بالإضافة إلى عديد من الإصلاحات الاجتماعية. أما عن أسباب فشل هذه المرحلة، فبرأيهما أنَّ الحكم الشهابي لم يمس بالطائفية السياسية** المتجذرة في النظام اللبناني، ولكنَّه استخرج من الطائفية أحسن ما فيها.
يكمل (دعيبس) الحوار مصوِّبًا البوصلة تجاه مرحلة الحرب الأهلية؛ الحرب التي امتدت خمس عشرة سنة، والتي ارتكبت في أثنائها الأحزابُ اللبنانية كثيرًا من الأخطاء والخطايا.
ويشرِّح ضيفا (دعيبس) العواملَ التي أدت إلى الحرب، سواءً تلك البادية للعيان أو المتخفية جمرًا تحت الرماد. ويعرِّجان بعدها سريعًا ودونما تفصيل على سيرها وسيرورتها، ويصلان إلى مناقشة (اتفاق الطائف) الذي أنهاها عام 1990.
لقد شكلت الحرب تجربةً مؤلمةً لكل اللبنانيين، وما زال صدى آلامها يؤرق ذاكرتهم إلى اليوم، ولكنَّ تلك الخسارات الموجعة التي خلفتها أحدثت دويًا هائلًا في نفوسهم وجعلتهم يعيدون النظر في المُسلَّمات كلها.
فها هو (كريم مروة) يقرُّ بأنَّ تجربة الحرب ساهمت في إعادة رسم رؤيته تجاه التغيير وأدواته، إلى حدِّ إيمانه بالنقيض ممَّا كان يؤمن به، فهو يقول في معرض الحديث: "إن الحرب لا يمكنها أن تكون بالمطلق أداة تغيير. وهذه الفكرة تتناقض مع فكرة سابقة جرى التنظير لها من قبل الماركسيين، بمدارسهم المختلفة، ونحن منهم، تقول إن التغيير لا يحصل إلا بالثورة، أي بالعنف".
ثم ينتقل إلى الحديث عن الآليات التي اتبعها الحزب الشيوعي عقب مؤتمره الثالث لتكريس هذه الفكرة، ويكمل: "واستنادًا إلى هذا الفهم الجديد للتغيير، شكلًا ومضمونًا، أتبنى أنا شخصيًا، مفهومًا جديدًا للثورة هو مفهوم التراكم الذي يحصل ببطء، أو بسرعة، ليؤدي إلى التغيير".
وفي الختام، يشكل الكتاب تحليلًا ثاقبًا لأهم الأحداث في تاريخ لبنان الحديث.
وقد أغنى هذا التحليل كونه لم يمثل وجهة نظرٍ واحدة، بل كان حصيلة حوارٍ عقلاني هادئ بين شخصيتين على طرفي نقيض.
ويختلف الضيفان في عدة مواضع، وهو أمرٌ بديهي كونهما ينتميان إلى مدارس مختلفة في الفكر والسياسة، ولكنَّهما يجتمعان في أحيانٍ كثيرة أيضًا، خصوصًا في التصويب على مكامن الخلل في عملية بناء الدولة، بل وأكثر من ذلك، فهما لا يشعران بالحرج؛ إذ يقدمان نقدًا موضوعيًّا لأداء الأحزاب التي عملا لأجلها سنواتٍ طوال، ويشيران بالبنان صراحةً إلى أخطائها الكبرى.
**الطائفية السياسية: هو مصطلح يرمز إلى توزع المقاعد والمناصب في الدولة وفق نسبٍ محددة لكل طائفة.
معلومات الكتاب:
بقرادوني، كريم. مروه، كريم. حوارات دوّنها: طانيوس دعيبس (1995). الوطن الصعب الدولة المستحيلة. بيروت. دار الجديد. عدد الصفحات: 265.