تغيُّرات المناخ ودورها في اختيار الأنواع
البيولوجيا والتطوّر >>>> التطور
إنَّ قدرة الأنواع المختلفة على التأقلم بيئيًّا وبيولوجيًّا مع تحديات التغير الحراري العالمي هو ما سيؤثر في التنوع الحيوي، لذلك غدا أولويةً بالنسبة إلى الباحثين في يومنا هذا التركيزُ على تأثيرات تغيرات المناخ في تطورِ الأنواع وانقراضِها وتوزعِها، فنتيجةً للاحتباس الحراري ستستمر تغيرات الطقس بإحداث تغييرات جذرية في درجات الحرارة العالمية بما فيها زيادة متوسط معدلات الحرارة وزيادة تواتر موجات الحر، ومن شأن هذه التبدلات أن تهدد التنوع الحيوي وتوزع الأنواع والفصائل في البيئات الطبيعية المختلفة؛ إذ يمكن لدرجات الحرارة شديدة الارتفاع أو الانخفاض أن تؤثر في خصوبة الحيوانات والنباتات والفطور، مما قد يعرضها لخطر الانقراض.
لاحظ الباحثون أن تأثير التغيرات الحرارية في انقسام الأمشاج (أي الخلايا الجنسية كالنطاف والبويضات) أكبر منه في الخلايا الجسمية (أي خلايا الجسم المتجددة التي تنقسم باستمرار لتعطي خلايا جديدة مطابقة للخلايا الأصل)، وهبوطُ الخصية (أي عدم وجودها داخل الجسم) تأكيدٌ لذلك؛ لأنه يشكل دليلًا على أن إنتاج النطاف يحدث في درجات حرارة أقل من درجة حرارة الجسم.
في إحدى الدراسات على بقِّ الفراش لاحظ العلماء أن تشكُّل البيضة وفقسها يتراجع كليًّا بسبب الصدمة الحرارية، وفي دراسة أخرى على الدبابير سجَّل العلماء نقصًا في حالات الجماع نتيجة التراجع في سلوك التودد ونقصِ عدد النطاف وصولًا إلى حدِّ العقم الكامل لدى الدبابير التي تعرضت لصدمة أكبر من بقية أقرانها.
وفي دراسة أخرى أُجريت على الخنفساء، عُرِّض ذكور الخنافس لصدمة حرارية مما أدى إلى تناقص في حركة النطاف ونقص التنافسية على بويضات الأنثى عند الإلقاح، وسجَّل الباحثون كذلك انخفاضًا في عمر ذرية هؤلاء الآباء. ولدى تعريض الإناث لصدمة حرارية سجَّلت تراجعًا في حيوية النطاف داخل أعضاء التخزين الأنثوية.
لم تقتصر الدراسات على الحشرات فحسب، وإنما كان للحيوانات أيضًا نصيبٌ من هذه الأبحاث؛ فمثلًا بعد تعريض مجموعة من الدجاج للتغير الحراري على مدى ثمانية أسابيع ازداد معدل النطاف الميتة وصاحَبه تناقصٌ في معدلات الخصوبة، أما الأبقار في دراسة أخرى فقد فشلت لديها عملية الإباضة وتزايد لديها معدل الإجهاض بسبب وجودها في بيئة حارة. وكالعادة، فإنَّ للفئران أيضًا نصيبَها من الأبحاث؛ ففي دراسة أجريت على ذكورٍ منها بتعريضهم لصدمة حرارية مدة 30 دقيقة كانت النتيجة تناقص تعداد النطاف على مدى 60 يومًا (1).
ولكن؛ ماذا عن الكائنات المائية؟ هل هي أيضًا مهددة بخطر نقص الخصوبة؟ في الواقع نعم، لأنَّ تغير درجة حرارة المياه سيغير درجةَ حرارة أنسجتها، فضلًا عن أنَّ أمشاجَها ستكون على تماس مباشر مع المياه التي سبق وتغيرت درجة حرارتها عن المعتاد. تُعدُّ الأنواع المستوطِنة في المياه العذبة أو السطحية أكثر عرضة للتأثر بهذا التغير المناخي؛ إذ تكون هذه البيئات أكثر قابلية للتقلب الحراري، مما قد يُعرِّض أحياءها لصدمات حرارية حادة (1، 3).
لقد أُجري حتى يومنا هذا كثير من الأبحاث عن مدى تأثير التغير المناخي في خصوبة الأنواع، وذلك باتِّباع طرائق مختلفة لقياس الخصوبة مثلما لاحظنا في الأمثلة الوارد ذكرها سابقًا، وهذا ما جعل مقارنة نتائج الأبحاث المختلفة تحديًا حقيقيًّا.
ويبقى السؤال، كيف ستصمد الكائنات في وجه التغير المناخي العالمي؟ وهل نقص الخصوبة أو العقم الناتج عن الصدمات الحرارية قابل للعكس أم أنه عقم دائم؟
للإجابة عن هذه الأسئلة، علينا أن نعي أنَّ حفاظ الأنواع على وجودها على الرغم من التغيرات المناخية يكون إما بأن تملك الأنواعُ التنوعَ الوراثي أو الآلياتِ الجينية اللازمة للتكيُّف مع المستجدات البيئية، وإما بأن تملك القدرةَ على تغيير توزعِها الجغرافي بما يتناسب مع قدرتها على البقاء. ومن الجدير بالذكر أنه في عديدٍ من الأبحاث تبين أنَّ كثيرًا من الكائنات التي تناقصت خصوبتُها -أو حتى وصلت إلى مرحلة العقم- بسبب الصدمة الحرارية تمكنت من استرجاع الخصوبة مع إعادتها إلى بيئتها المعتادة، لكن العقم قد يكون غير قابل للعكس في حال تعرضت الأحياء لصدمة حرارية قاسية. يرجع ذلك إلى أن استجابة الأنواع للتغيرات الحرارية تختلف حسب شدةِ الصدمة الحرارية ومُدَّتِها، وذكرت عديد من الأبحاث أن تعريض ذبابة الفاكهة - مثلًا- لفترة تأقلم حراري ساعدها على مقاومة الصدمة الحرارية على نحو أفضل، ومن المُرَجَّح أنَّ ذلك يُعزى إلى بروتينات تُعرف باسم بروتينات الصدمة الحرارية (heat-shock proteins) التي تساعدها في تحمُّل درجات الحرارة المرتفعة، وليس بغريب أن توجد هذه البروتينات في الأمشاج، مما يفسر تحمُّلَ عديدٍ من ذريات ذبابة الفاكهة لتغيرات الحرارة في بيئتها.
يبقى موضوع تغيير التوزع الجغرافي تحديًا كبيرًا أمام عديد من الكائنات كالتي تستوطن في الجزر أو في مواطن خاصة على قمم الجبال المرتفعة، وعلينا أيضًا ألَّا ننسى أن النباتات لا تملك خيار تغيير الأوطان، مما قد يجعل بعضها تحت خطر الانقراض.
بالنتيجة، ستعمل التغيرات المناخية على اصطفاء الأنواع وإحداث تغييرٍ في التنوع والتوزع الحيوي في السنوات القادمة (1، 2).
المصادر: