كيف سيبدو العالم لو أنَه ملونٌ بالأبيض والأسود فقط؟
علم النفس >>>> المنوعات وعلم النفس الحديث
"أنا لست بشيءٍ سوى فاشل".
التفكير الثنائي (Dichotomous Thinking) أو ما يعرف بتفكير الأسود والأبيض (Black & White Thinking) هو تشوهٌ معرفي يميل فيه الأفراد إلى التفكير بطريقةٍ حديةٍ جداً مما يُبعد الشخص عن رؤية الواقع (2) والعالم مثلما هو في الحقيقة؛ مكانٌ مليئٌ بالتعقيدات والاختلافات الدقيقة، مثل التدرجات التي لا تنتهي بين الألوان (3).
استُعمل المصطلح بدايةً لوصف ميل الأشخاص المصابين باضطرابٍ اكتئابيٍّ حاد إلى التفكير بسوداويةٍ شديدةٍ في الأحداث التي تُعدُّ سلبيتها متوسطة. وفيما بعد لوحظ التفكير المستقطب (Polarized Thinking) واستُقصي في العديد من الاضطرابات الأخرى (4).
هل للتفكير الثنائي نتائج سلبية دوماً؟
ينغمس معظمنا في التفكير الثنائي من وقتٍ لآخر، دون تحوّله إلى ذهنيةٍ ثابتة، إذ يُشير الخبراء إلى أن هذا النمط من التفكير يعود من الناحية التطورية إلى نظام الدفاع أو الهروب في الجسم (3)، ومع الوقت أصبحت نتائجه تُستخدم لاتخاذ القرارات والفهم السريع ضمن الحياة اليومية في المجتمع. ففي الانتخابات السياسية يكون التصويت إما بنعم وإما بلا للوائح المقترحة، وفي النظام القضائي فإنَّ المتهمين إما مذنبون وإما بريئون، ولمثل هذه النتائج الواضحة فائدة كبيرة في عملية اتخاذ القرار في مواقع معينة، ولكنها أيضاً تُنهي المجادلات والنقاشات بالقفز السريع إلى النتائج مما يترك سوء تفاهمٍ كبيرٍ بين الآراء المختلفة (1). وقد يساعدنا التنّبه إلى الألفاظ التي نستخدمها ونكررها على نحوٍ كبير، في الكشف عن ميلنا إلى هذا النمط من التفكير مثل (دائماً، وأبداً، ومستحيل، وكارثي، ومدمر، وكامل، ...) (3).
ما تأثير التفكير الثنائي في حياتنا (3)؟
يؤذي علاقاتنا الاجتماعية:
علاقاتنا الاجتماعية ضمن العائلة ومع الأصدقاء وزملاء العمل والجيران مليئة بالتناقضات والجدالات التي لابدَّ أن تنشأ في لحظاتٍ معينة، وتُعد طبيعيةً جداً إن أخذنا في الحسبان شخصيات الأفراد وطباعهم المختلفة. لكن إن نظرنا إلى هذه الخلافات بنمطٍ ثنائي سوف نقع بسوء فهمٍ غالباً، وسنفقد فرصتنا في التفاوض والحوار الفعال، أو يمكن أن نتخذ قرارتٍ دون تقدير نتائجها على أنفسنا والآخرين.
التفكير الثنائي يَخدعنا، فقد ننقل الشخص فجأةً من تصنيف الجيد إلى السيئ أو العكس، ويدفعنا إلى التخلي عن عملٍ أو طرد أشخاصٍ دون سببٍ واضح، وإنهاء علاقةٍ عاطفيةٍ أو اجتماعيةٍ بسهولةٍ كبيرة. كل ذلك لأننا نقع في خطأ تصنيف الأشخاص بوصفهم مثاليين دوماً أو التقليل من قيمتهم على نحوٍ كبير.
يوقفنا عن التعلّم والتطوّر:
من السهل جداً وقوعنا في فخ التفكير الثنائي فيما يتعلق بحياتنا الأكاديمية والعلمية، فإنَّ ذهنية ثنائية الفشل المريع مقابل النجاح الخارق تُعد نتيجةً طبيعيةً للنظام المتّبع في تصنيف الدرجات الأكاديمية في غالبية المؤسسات التعليمية. في المقابل بدأ التوجه للتركيز على ذهنية النمو الدائم التي تشجّع الطلاب على الابتعاد عن تصنيف أنفسهم ومراقبة تقدمهم التدريجي على طريق الاحتراف والاقتراب من هدفهم الذي وضعوه.
يَحدُ من تطورك المهني:
في دراسة أُجريت عام 2017 كان لبعض الالتباس في تصنيف أدوار الأشخاص ومسؤولياتهم تأثيرٌ إيجابيٌّ في العمل الإبداعي، حتى وإن نشأت بعض الخلافات بسبب توسيع الأشخاص نطاق عملهم. ففي بيئات العمل القائمة على التعاون تتبدل مهام الأشخاص فيما بينهم وتتوسع بمرونةٍ للوصول إلى أهداف الشركة النهائية.
إضافةً إلى أنَّ التفكير بثنائيةٍ يُضعف من تطلعاتك المهنية، فمن خلال تحديد مهنتك بوصفها شيئاً ثابتاً ومحدداً على نحوٍ ضيقٍ، سيجعلك تفوّت فرصاً كثيرةً للتطور وإغناء خبراتك.
يُعطل من عاداتك الغذائية الصحية:
أكدت دراساتٌ عديدةٌ وجود علاقةٍ بين نمط التفكير الثنائي واضطرابات الأكل، فعندما تفكر بثنائيةٍ سترى الأطعمة إمّا ضارةً وإما نافعةً على نحوٍ كامل، وقد تنظر إلى جسدك باشمئزازٍ كبير، أو على العكس بأنه مثالي تماماً. هذه العقلية قد تدفعنا إلى وضع قواعد غذائية صارمة تجعل من الصعب الحفاظ على علاقةٍ صحيةٍ جيدةٍ مع الطعام.
ما أسباب التفكير بثنائية؟
يعتمد الجميع التفكير بثنائيةٍ من حينٍ لآخر، ولكنَّ الاستمرار في اتباع هذا النمط لا يُعد أمراً طبيعياً وقد يكون سببه التعرض لاضطراب ما بعد الشدة في الطفولة أو الكهولة هنا كونها وسيلةً لحماية أنفسنا من المستقبل (3).
كذلك فقد لوحظ من خلال عدة دراساتٍ وجود ارتباطٍ قوي بين التفكير الثنائي واضطرابات الشخصية، مثل النرجسية (Narcissism) واضطراب الشخصية الحدية هنا وغيرها.
وبهذا الخصوص طَوّرت دراسةٌ مقياساً يدعى مخزون التفكير الثنائي (Dichotomous Thinking Inventory) والذي يعتمد على إجراء تقريرٍ ذاتي لتقييم أسلوب التفكير المعرفي بالأبيض والأسود أو نظرة الشخص للعالم، إذ أظهرت هذه الدراسة بأن الميل إلى التفكير بثنائية له علاقٌة قويةٌ مع اضطراب النرجسية، وعلى نحوٍ أقل -ولكنه واضحٌ- مع الحدية. وعلى العكس منه، وُجد أنَّ ارتباط اليقين التام بالثنائية مع اضطراب الشخصية الحدية أكبر ومُلاحظاً أكثر من النرجسية، أمّا نظام الربح التام أو الخسارة فكان ارتباطه قوياً بالاضطرابين على حد سواء، مما يُظهر وجود عدة أبعادٍ من التفكير بثنائية ولكلٍّ منها ارتباطاته المختلفة باضطرابات الشخصية (1).
كيف نستطيع تغيير تفكيرنا الثنائي؟
قد يطال التأثير السلبي لهذه الذهنية حياتنا الاجتماعية والمهنية ومزاجنا أيضاً، لذا من الضروري عند تضررنا أن نلجأ إلى اختصاصيٍّ نفسي لمساعدتنا.
يوجد بعض الطرائق المفيدة في ضبط هذا التفكير:
1. حاول أن تفصل بين ما تؤديه وبين من أنت في الحقيقة، إن كان تقييمنا لأنفسنا يدور ضمن مقياسٍ وحيدٍ سنصبح أقرب لتفكير الأبيض والأسود.
2. استمع لجميع الخيارات، لا تكتفِ باحتمالَي الأبيض والأسود، اكتب جميع الاحتمالات الأخرى التي يمكن تخيلها.
3. فكر وكأنك مكان الآخرين، التفكير الثنائي يحرمنا من رؤية العالم والأشياء بعيون أخرى، لذا عند دخولك في جدالٍ مع أحدهم حاول طرح أسئلةٍ واضحةٍ كي تستطيع فهم الآخر (3).
العالم متنوعٌ وغالبية الأمور لا تبدو واضحةً وضوح الأبيض والأسود، لذا قدّر الظلال الرمادية لتكون أقرب إلى الواقع، وإلى السلام الداخلي على حد سواء (2).
المصادر:
1- oshio a. Development and validation of the Dichotomous Thinking Inventory [Internet]. researchgate. 2009 [cited 28 May 2020]. Available from:
هنا
2. Sanivarapu S. Black & white thinking: A cognitive distortion [Internet]. ncbi.nlm.nih. 2015 [cited 28 May 2020]. Available from:
هنا
3.Stanborough R. How Black and White Thinking Hurts You (and What You Can Do to Change It) [Internet]. healthline. [cited 29 May 2020]. Available from:
هنا
4. dichotomous thinking [Internet]. dictionary.apa. [cited 29 May 2020]. Available from:
هنا