تحديّات العلاج الجيني في مرض فقر الدّم المنجلي
البيولوجيا والتطوّر >>>> التقانات الحيوية
العلاج الجيني تقنيةٌ تجريبية تَستخدِم الجينات لعلاج المرض أو الوقاية منه إمَّا باستبدال الجين المُتضرِّر الذي يُسبِّب المرض بنسخة سليمة منه، أو بحذف تفعيل الجين الطافر أو إيقافه أو بإدخال جين جديد في الجسم للمساعدة في محاربة المرض(7).
وعلى الرغم من أنَّ هذه التقنية واعدة في علاج الأمراض الجينية، ولكنَّها مرَّت_وما تزال تمرُّ_ بعديد من التحديات؛ إذ اكتسب العلاج الجيني شهرةً واسعة في الأوساط العلمية تحديداً في عام(1999) إثر حالة وفاة لمريض يدعى (Jesse Gelsinger)؛ المشارك في إحدى أوائل التجارب السريرية على دواء يستخدم هذه التقنية في العلاج.
وقد أحرز العلم منذ تلك الحادثة إلى يومنا هذا تقدُّماً في مجال العلاج الجيني الذي ما زال قيد الدراسات وسنركز في هذا المقال على فقر الدم المنجلي (1).
اكتُشِف هذا المرض أول مرة عام(1910)، ويكثر انتشاره في الدول الفقيرة؛ كالدول الإفريقية والهند (1).
وهو يحدث نتيجة لطفرة في جين (β-globin) التي تشارك في إنتاج بروتين الهيموغلوبين مُنتجةً بذلك بروتين غير سوي من الناحية الشكلية والوظيفية(2)، وبما أنَّ الهيموغلوبين في الكريَّات الحمراء هو المسؤول عن نقل الأوكسجين، فإنَّ كريات الدم المنجلية تفقد وظيفتها؛ نتيجة لاكتسابها شكلاً هلالياً بدلاً من الشكل الكروي المقعَّر الذي يُسهِّل حركتها في الأوعية الدموية، وهكذا تفقد مرونتها وقدرتها على الانسياب في الأوعية فتزيد احتمالية سدِّ الشُّعيرات الدموية الصغيرة، وينتج بذلك عدمُ وصول الأوكسجين إلى الأعضاء، ومضاعفاتٌ منها آلام حادَّة ومزمنة؛ نتيجة لانقطاع التغذية عن بعض الأعضاء، وألم صدري حاد قد يُجبِر المريض على دخول المستشفى، وسكتات دماغية وجلطات، ومضاعفات على مستوى الطحال وفشل في وظائف الأعضاء، بالإضافة إلى الالتهابات وتجرثم الدم (3-4).
وتُعدُّ أغلب التدابير العلاجية الحالية علاجاً للأعراض وليس علاجاً للسبب الرئيس، وهي تتضمَّن مُسكنات الألم ومضادات الالتهاب، والمضادات الحيوية وخاصَّة للأطفال دون خمس سنوات، ونقل الدم، وزرع نقي العظم، بالإضافة إلى عقار الهيدروكسي يوريا الذي يخفِّف نوبات الألم ويحسِّن من نوعية حياة المريض (4-5-6).
ودعونا نلقي نظرة أعمق إلى استراتيجيات العلاج الجيني المتَّبعة في فقر الدم المنجلي وما التحديات التي تواجهها.
استراتيجيات العلاج الجيني (1):
تعتمد اعتماداً رئيساً على عزل الخلايا الجذعية المنتجة لكريات الدم الحمراء من نقي العظم وتعديلها جينياً في المختبر، وذلك يكون غالباً عبر استخدام فيروس يحمل المعلومة الوراثية المطلوبة إلى الخلايا الجذعية المعزولة ويدمجها بجيناتها، ويكون ذلك باتباع الطرائق الثلاث الآتية:
أولاً: استبدال المورثة غير السليمة التي تنتج بروتين β-globin (بيتا غلوبين) غير سليم بمورثة سليمة، وهكذا تصبح هذه الخلايا قادرة على إنتاج كريات حمراء طبيعية.
ثانياً: تنشيط التعبير الجيني عن بروتين y-globin (غاما غلوبين): لاحظ الباحثون أنَّ ارتفاع نسبة هذا البروتين تحمي الهيموغلوبين من التكتُّل على بعضه، وهكذا تحمي شكل الكرية الحمراء ووظيفتها، فالمشكلة تكمن في أنَّ المورثة المسؤولة عن إنتاج هذا البروتين تتوقف عن العمل بعد الولادة؛ لذلك يعمد الباحثون إلى توصيل نسخ معدَّلة من الجينات المسؤولة عن إنتاج ال (y-globin) إلى الخلية الجذعية المعزولة بالآلية نفسها المذكورة سابقاً ودمجها بجيناتها بوصف هذا الأمر استراتيجية علاجية ممَّا يسمح للخلية بإنتاج هذا البروتين لاحقاً.
ثالثاً: هناك تقنية أخرى تعتمد تفعيل المورثة المسؤولة عن إنتاج البروتين (y-globin): توجد بروتينات في الخلية تسمح بوقف التعبير الجيني للمورثات أو تعديله، ومنها (BCL11A) المسؤول عن كبح التعبير الجيني عن بروتين (y-globin).
وفي تجارب أجراها الباحثون على فئران مصابة بفقر الدم المنجلي لاحظوا أنَّ إيقاف التعبير الجيني عن BCL11A (بتقنيات منهاCRISPR Cas9 الذي تحدثنا عنه في مقال سابق: هنا) يزيد من التعبير الجيني عن غاما بروتين، وهذا يعني بالنتيجة استرجاع شكل الكرية الحمراء ووظيفتها.
ومن الجدير بالذكر بأنَّ المريض يخضع إلى علاج كيميائي لقتل ما تبقى من الخلايا الجذعية المرضية في جسمه قبل أن يُعادَ زرع الخلايا الجذعية المعدلة جينياً في جسم المريض الذي عُزلَت منه.
ولهذه التقنية سلبياتها وأخطارها طبعاً كونها قد تُعرِّض المريض لخطر الإصابة بفقر دم حاد وشديد، فضلاً عن أنَّ العلاج الكيميائي يُنقِص من كريات الدم البيضاء المسؤولة عن الآلية المناعية، وقد يسبِّب العقم واحتمالية أكبر للإصابة بالسرطانات لاحقاً، ولكنَّ هذا الخيار قد يكون نافعاً في الحالات الحرجة الخطيرة من المرض على الرغم من أنَّ أغلب المرضى في هذه المرحلة يعانون من فشل كلوي وقلبي أو تضرُّر في الكبد ممَّا يجعل العلاج الكيميائي خطراً على حياتهم.
ولكن؛ دعونا لا نفقد الأمل، فهناك نتائج مشجِّعة لتجارب سريرية ناجحة استُخدِم فيها العلاج الجيني لدى مرضى فقر الدم المنجلي؛ ففي إحدى التجارب، لم تظهر على المريض المُعالَج باتباع الاستراتيجية الثالثة المذكورة أعلاه (كبح التعبير الجيني عن بروتين BCL11A) أيَّة أعراض للمرض سنةً كاملة.
وأعلنت شركة Bluebird Bio في شهر حزيران(2019) أنَّها عالجت (13) مريضاً وتابعت حالة البعض منهم مدة سنة كاملة بعد العلاج، ولم يُسجِّل أي منهم نوبات ألم شديدة.
وفي الشهر نفسه كانت الموافقة على استخدام هذا العلاج في الاتحاد الأوروبي عند مرضى التلاسيميا بيتا، وهو مرض جينيُّ يصيب خلايا الدم الحمراء أيضاً.
و من الجدير بالاهتمام أنَّه لم تُوقَف أيٌّ من هذه التجارب السريرية بسبب مشكلات تتعلَّق بأمان الدواء على الرغم من أنَّ مسألة الأمان تُعدُّ هاجساً كبيراً في تقنية العلاج الجيني(1).
ويبقى العائق المادي عائقاً لا يُستهان به، وخاصة أنَّ هذا المرض متمركز أكثر في البلدان الفقيرة، فعلى سبيل المثال؛ قُدِّرَت تكاليف علاج التلاسيميا بيتا بـ1.8 مليون دولار دون حساب تكاليف المستشفى والتكاليف الجانبية الأُخرى، ولكن؛ في حال تَمكَّن العلماء من إيصال الدواء إلى الخلايا المنجلية دون الحاجة إلى عزلها من جسم المريض، قد تنخفض بذلك التكاليف العلاجية بنسبة كبيرة (1).
المصادر: