العلمانية؛ ما بين حرية المعتقد وحياد الدولة تجاه الأديان
الفلسفة وعلم الاجتماع >>>> الفلسفة السياسية
في ظلّ هذا النزاع، يقدّم بعض الباحثين مفهومًا جديدًا عن العلمانية، يشرح هذا المقال هذا المفهوم الجديد، ويسرد بعض التحديات التي واجهتها العلمانية الأساسيّة والأفكار التي تحدّد عمل العلمانية المُقترحة من الناحية الاصطلاحية والأخلاقية والتاريخية.
ما تزال تحدث سلسلة من الأحداث المهمّة في فرنسا خصوصًا وفي الدول الأوروبية عمومًا، أشهرها حادثة شارلي إيبدو (Charlie Hebdo) إضافةً إلى قانون منع بعض فئات المجتمع من السباحة بلباسٍ معينٍ في فرنسا الذي أثار ضجةً غير مسبوقة وغيرها؛ وبذلك تتلقى العلمانية سيلًا من الانتقادات لطريقة عملها إلى جانب اتهاماتٍ بتهميش الأقليات الدينية في ظلّ ادعاء مناصريها الحيادَ الدائم (3)، وفي الطرف المقابل؛ كان قد ناقش بعض الباحثين في كندا في (اللجنة الاستشارية بشأن التكيّفات المتعلقة بالاختلافات الثقافية Commission de consultation sur les pratiques d’accommodement relie´es aux differences culturelles) التي ألَّفتها حكومة كيبيك الكندية بعض الحلول لطريقة عمل أجهزة الدولة تجاه الأقليات، إذ ألَّف الباحثين تشارلز تايلور (Charles Taylor) وجوسلين ماكلور (Jocelyn Maclure) كتاب (العلمانية وحرية الضمير) (Secularism and the Freedom of Conscience) بالتعاون مع اللجنة الاستشارية، ويناقش أساسًا القضايا التي تواجهها اللجنة وأهمّها المظاهر الدينية في المجال العام وقوانين التكيّفات، ويُقصد بالمجال العام هنا الأماكن العامة كدوائر الدولة والمدارس والجامعات، في حين يُقصد بحرية الضمير الحرية في المعتقد أيًّا ما كان (2).
الأخلاق بين نموذجين
اقترح الباحثان مفهومًا جديدًا قائمًا على مبدأين هما:
- المساواة في الاحترام.
- منح الجميع حرية الضمير (أي الاعتقاد).
ويتحققان عبر طريقتين إجرائيَّتين هما:
- حياد الدولة تجاه الأديان.
- الفصل بين الدين والدولة.
يُطلق على هذا الأنموذج من العلمانية (التعددية الليبرالية) (Liberal Pluralism)، يرى هذا المفهوم العلمانيةَ على أنها أسلوبٌ للحُكم تتمثّل وظيفته في إيجاد التوازن الأمثل بين احترام المساواة الأخلاقية واحترام حرية الضمير للأشخاص. تَعدُّ العلمانية الليبرالية الدينَ جزءًا من الكيان الشخصي للفرد، وترى أيضًا أن محاولات الحكومة لتحرير الناس من الدين تنطوي على عدم احترامٍ لمعتقداتهم، في الوقت الذي تنادي فيه (العلمانية الجمهورية) (Republican Secularism) بالتحرير المجتمعي من الفروقات الدينية -التي من وجهة نظرها- ضرورية للحصول على اندماج مجتمعي مدني (2,1).
إذًا يُمكن ملاحظة بعض الاختلافات في طريقة تعاطي الحكومة مع المعتقدات الدينية للأفراد بين النموذجين، فعلى عكس العلمانية الجمهورية، تؤكّد العلمانية الليبرالية-التعددية على وجوب تطبيق العلمانية في الدولة بدون الحاجة إلى عَلمنة المجتمع أو التدخل في الخيارات الشخصية الدينية للأفراد (طالما أنّها لا تُشكّل خطرًا على الفرد أو المجتمع أو الدولة)، في المقابل؛ تتبنّى الدولة في الأنموذج الجمهوري قانونًا أخلاقيًّا مستقلًا عن كل الأديان ويكون مؤسسًا على الحرية، بمعنى آخر، يُستعاضُ عن التصوّر الديني الشخصي بتصوّر فلسفي علماني وشمولي. وينتقد الليبراليون-التعدديون هذا التصور لعدّة أسباب أهمها تهميش الديانات الشخصية أو وَسمها بأنها فلسفاتٌ أخلاقيةٌ أقلّ شأنًا من التصوّرِ الأخلاقي الشموليّ للدولة، إضافةً إلى الاعتقاد بأنّ تشميل الفلسفة الأخلاقية الحكومية على جميع المواطنين لا تختلف عن مثيلتها في الدولة الدينية (1).
مبادئ العلمانية ووسائلها
دائمًا ما يتردّدُ تعريف العلمانية السائد بأنها (حِياد الدولة تِجاه الأديان) أو (الفَصل بين الدِين والدولة)، إلّا أنّ هكذا تعريفات من المُمكن أن تنطوي على صِيغ غير مفهومة للعلمانية. يُنادي مناصرو التعددية الليبرالية بالفَصْلِ ما بين قيم العلمانية ووسائلها، وذلك من أجْل بِناء تصوّرٍ أكثر وضوحًا عن خُطة تطبيقها، فمع أنّ تعريف (الفصل بين الدولة والدين) قد يكون مشتركًا وغير قابلٍ للتفاوض، إلا أنّ القيم والوسائل قد تكون مختلفةً في الحالة الليبرالية، فترتكز العلمانية هنا على مبدأين أساسيين هما: مُعاملة المواطنين بالقدر نفسه من الاحترام، ومنحهم الحق في حرية الضمير. أما الطرائق الإجرائية لتحقيق ذلك فتكون عن طريق حياد الدولة تجاه الأديان والفصل بين الدين والدولة، والجدير بالذكر أنه لا ينفع تطبيق مبدأ دون الأخر؛ إذ إنّه لا يمكن لدولة تقييد حرية المعتقد لجميع المواطنين مع القول بأنّها تُعاملهم بِالقدر نفسه من الاحترام. المشكلة من وجهة نظر الليبراليين تكمنُ في الخلط بين الوسيلة والغاية في التصورات الأكثر تشددًا للعلمانية، فينتهي الأمر بإيلاء الأولويّة للإجراء على حساب الغاية؛ أيْ إنّها تُعطي الأولويّة لتطبيق الفصل الصارم بين الدين والدولة على حساب احترام حقّ الأفراد في حرية الضمير (1).
الإرث التاريخي والفضاء العام
في ظلِّ المطالبة المستمرّة بحياد المؤسسات العامّة للدولة تِجاه الأديان، يُنادى بتحقيق الحياد التام بِإزالة جميع المعالم التاريخية ذات الطابع الديني من الفضاء العام حتّى لو كان عائدًا لدين الأغلبية، ولكنّ العلمانية الليبرالية لا ترى إشكاليةً في إظهار المعالم التاريخية الدينية بوصفه جزءًا من إرث المكان وتاريخه، فعلى سبيل المثال، يُعبِّر الصليب على قمة جبل مونت رويال في مدينة مونتريال عن الإرث التاريخي للمدينة وليس عن دين المدينة أو المقاطعة أو الأكثرية. على صعيدٍ آخر، تعمل السلطات في الدول ذات العلمانية الجمهورية دائمًا على إخلاء الفضاء العام (الشارع، المدارس، الحدائق العمومية..) من جميع رموز الدين ومظاهره، مثل منع الحجاب في الجامعات والمدارس الحكومية في فرنسا، في حين يعد مناصرو الجمهورية بأن ارتداء الحجاب يصبغ المدرسة بدين معين في الوقت الذي يجب فيه خلو كل الفضاءات العمومية من المظاهر الدينية، يَردُّ دعاة التعددية بأنّ ارتداء الحجاب هو أمرٌ فرديٌ لا يُلزم المؤسسة العامة، وأنّ ابتغاء العلمانية لا يكون بِإخلاء المؤسسة أو الجامعة من الدين، بل بِالحرص على عدم تحيّز هذه المؤسسات لدينٍ معين، فالحياد يتعلّق بالمؤسسات وليس بالأفراد (1).
وتَرتكز حجّة العلمانية التعددية على حق الإنسان في المُجاهرة بمُعتقده بالاستناد إلى المادة 18 من الميثاق الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية: (لكل إنسان حقٌّ في حرية الفكر والوجدان والدين. ويشمل ذلك حُريته في أنْ يَدينَ بدين ما وحريته في اعتناق أي معتقد يختاره، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبّد وإِقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بِمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حدة)، وبناءً عليه، فإنّ منع المظاهر العقائدية يُعدُّ نوعًا من الانتهاك لأحد الحقوق المدنية الأساسية (4).
التكيّفات الدينية
تُعدُّ التكيّفات الدينية من أكثر نقاط الاختلاف جدلًا في الأنظمة العلمانية؛ إذ يرى بعضهم أنّها تتناقض مع مبادئ العدالة الاجتماعية السائدة في النظام العلماني، ويُقصد بالتكيّفات؛ الإجراءات الإستثنائية القانونية المتكيّفة مع وضع فئةٍ معينةٍ تدفعها أسبابٌ دينيةٌ لطلب هذا الاستثناء من القانون العام المطبّق على الجميع، ومثالٌ على ذلك، الطلبات المتعلقة بساعات العمل في خلال شهر رمضان لدى المسلمين أو طَلب أماكن للتعبّد في المؤسسات التعليمية. تَلقى هذه الطلبات رفضًا واسعًا ليس من قبل المشرّعين فحسب، بل من قِبلِ فئةٍ كبيرةٍ من عامّة الشعب، ويَرى الرافضونَ أنّ العدالة الاجتماعية يجب أن تُطبّق بإنصافٍ على كافّة فِئات المجتمع من دون تمييز، إضافة إلى أنّ الرفض يقوم على أساسٍ أكثر جدليةً بالقول بأنّ التكيفات مع بعض الأفكار الدينية مِن المُمكن أنْ تتطور لِتشمل طلباتٍ للتكيف مع أفكار فلسفية أخلاقية أو مبادئ صارمة لدى بعض الأشخاص كالنظام الغذائي الخضري (1).
يناقش الباحثان بأن القوانين العامّة على شرعيتها، إلّا أنّها غالبًا ما تكون موجّهةً لِخدمة الأكثرية، وهذا مقبول إلى الحدِّ الذي يبدأ فيه القانون بالتسبب بضرر لفئة معينة في المجتمع، في هذا الوضع، يُعدُّ القانون غير محايد كليًّا، ويَرى الباحثان أنّ قوانين التكيّف تُعبر بنحو أكبرَ عن الإنصاف والعدالة الاجتماعية من القوانين الشاملة. في الوقت نفسه يدرس الباحثان الآليات التي تَحوْلُ بين المتطلبات التكيّفية وبين استخدامها انتهازيًّا أو أداةً لمصلحةٍ شخصيةٍ غير متعلقةٍ بالدين، كأن تُستخدم لطلب أيام عطلٍ إضافيةٍ مدفوعة (1).
لا يَعدُّ الأنموذج الليبرالي الحقوقَ الفردية غير قابلةٍ للمساس أو غير محدودة، بل يَعدّها محدودةً بالمصلحة العامة وحرية الآخرين، لكن مع تصاعد حدّةِ التيّارات الدينية في الغرب، لا يزال الجدل مستمرًا على الموضوع مع المُطالبة بخطوات أكثر جدية باعتبار أنّ الجدل ليس تشريعيًّا بِقدر ما يتعلّق بحقوق الإنسان، ومن هنا؛ يحاول أنصار الأنموذج التعددي إِثبات أنّه من الممكن صياغة فكرة علمانية أكثر انفتاحًا وتكون بإمكانها ضمان مساواة عادلة للمطالبات المتعلقة بالأمور الدينية.
المصادر:
1- تايلور، تشارلز. ماكلور، جوسلين (2010). العلمانية وحرية الضمير. ترجمة الرحموني. محمد. (ط.1). بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر. ص 28-35، 42-51، 60، 95، 102-111.
3- Jayal NG. Religion, Secularism and the State [Internet]. Global Center for Pluralism. Jawaharlal Nehru University; 2017. Pp: 1-4 Available from: هنا
4- International Covenant on Civil and Political Rights [Internet]. OHCHR. Available from: هنا