نقد فكرة العدالة عند أفلاطون
الفلسفة وعلم الاجتماع >>>> الفلسفة
قد يحسب المرء أن الإجابة يجب أن تكون بسيطة وبدهيّة، إلا أن المحاورة تكشف عن جوانب دقيقة في الإجابة عن هذا التساؤل. فبينما راح أديمنتس وغلوكون يتحدثان عن العدالة الفردية، راح سقراط يتحدث عن العدالة الجمعيّة التي هي "العدالة السياسية" أو الدولة بالمعنى المعاصر، إذ يريد سقراط القول أن العدالة ليست مسعىً فردياً، بل إنها لا تتجسّد إلا في الدولة والمجتمع.
ونحن بدورنا سنقدم نقداً لهذه الرؤية الأفلاطونية السقراطية لمفهوم العدالة، وللقارئ في نهاية المطاف الحكم بالاقتناع أو عدم الاقتناع بمفهوم العدالة عند كل طرف من هذه الأطراف: (موقف غلوكون) (موقف اديمنتس) (موقف أفلاطون على لسان سقراط) (النقد الموجّه لتلك المواقف).
أولاً: موقف غلوكون.
يرى غلوكون أن العدالة ليست مطلوبة "لذاتها" وهي ليست اختياراً حرّاً ونزيهاً، و إنما هي نتيجة لعجز الإنسان عن ارتكاب الظلم وتحمّل عواقبه، فالإنسان ليس عادلاً بالفطرة، ولا مريداً للعدل بذاته، و إنما يعدل الإنسان حين لا يستطيع الظلم، أو حين تحقق له العدالة منفعة سواء مادية أو معنوية.
و يضرب غلوكون مثالاً على ذلك أسطورة "خاتم جيجيس" وهو خاتم يجعل صاحبه يختفي عندما يلبسه فلا يراه أحد، و يتساءل غلوكون أن لو وقع هذا الخاتم بيد إنسان "عادل" فهل سيبقى عادلاً؟ وهل سيمنعه عدله من إرضاء نزعاته وأهوائه الخاصة؟ يجيب غلوكون بالنفي، لأنه يعتقد أن العدل الذي كان عنده لم يكن عنده سوى نزعة للظلم مكبوحة وملجومة لعدم القدرة وللخوف من إظهارها.
كما يقدّم غلوكون مثالاً آخر يبرهن من خلاله على فساد الطبيعة البشرية بالأصل (الفساد هنا بمعنى الميل الفطري نحو الظلم) فيقول: لو أن المتعدي قام بالتعدي على الوجه الأكمل واستطاع إخفاء تعدّيه بمهارة فإنه سيقوم عند الناس بمنزلة أرفع – خذ السرقة مثالاً – فلو نجح أحد ما بإخفاء مصدر ثروته أفلا يقوم عند الناس بمنزلة رفيعة نظراً لمقامه الاجتماعي، أما من سيتم تجريمه بالسرقة فسيقوم عند الناس بمقام وضيع، والفرق بين الإثنين أن الأول استطاع إخفاء ظلمه وتعدّيه بينما الآخر لم يستطع ذلك، فكلاهما في منزلة واحدة من حيث الفعل ولكن في منزلتين متباينتين عند الناس.
و هنا ينتقل غلوكون لفكرة "الأقنعة الاجتماعيّة" أو باللفظ المعاصر "التسويغ والتقيّة" فيرى أن القناع الذي يرتديه العادل يوفّر له مغانم اجتماعية بين الناس، فالظالم بذاته وبطبيعته لو اهتمّ بتقديم قناع العادل فإنه سينال كل المنافع، على العكس من العادل بذاته وبطبيعته، فإنه إذا ما عكس قناعه الحقيقي فإنه سيكون خاسراً على أيّة حال.
و بالتالي فالعادل البارّ عند غلوكون هو: الإنسان الذي إذا نزعنا عنه كل امتياز تحققه له العدالة، بل وتعرّض لأقسى أنواع المظالم والعذابات جرّاء عدله فإنه سيثبت عند عدله وموقفه المستقيم، و لكن غلوكون يعود ليقول أن هذا الإنسان نفسه ستعرض له الدنيا بزينتها وملذاتها جرّاء وثوق الناس به وبعدله وبالتالي سينساق وراء هذه الملذات متجاهلاً العدل ومع ذلك لن ينتقص ذلك من قدره ومقامه عند الناس.
ويذهب غلوكون أبعد من ذلك فيقول بأن الظالم أقرب للآلهة من العادل، لأنه "أي الظالم" يستطيع تقديم القرابين للآلهة ويشتري رضوانها وعفوها.
ينتهي غلوكون إلى أن موقف الظالم أنفع وأسعد من موقف العادل ومن مصيره، و ذلك نظراً لسذاجة الناس في الحكم والتقدير واهتمامهم بالظاهر فقط، و لذلك فالظالم ينتهي إلى استلام زمام الأمور والحكم والقوة والمال، والآلهة تقوم بتدعيمه وتوفير سبل الارتقاء له لما له من الحرص على تقديم القرابين والتقرّب إليها (فالآلهة بنظر غلوكون مرتشية يمكن شراؤها بالقرابين مهما كان الإنسان في حقيقته شريراً).
ثانياً: موقف أديمنتس.
يرى أديمنتس أن الفضلاء سيحوزون فضيلتهم في الدنيا على شكل احترام وتقدير وكرامة، وعند الآلهة فردوساً لا يضاهيه فردوس. لكن كلّاً من غلوكون واديمنتس يطالب سقراط بتبيان ضرورة طلب الفضيلة "لذاتها" على أنها الخير المحض وليس لنتائجها المرجوّة.
يقول غلوكون: "لن يكفيني يا سقراط أن العدل أفضل من الظلم، و إنما عليك أن تبيّن كيف يكون أحدهما شراً والآخر خيراً).
ثالثاً: موقف أفلاطون يعرضه على لسان سقراط.
العدالة عند سقراط ليست عدالة فردية بل ترتبط مباشرة بالعدالة العامة بمعناها الاجتماعي والسياسي، فالدولة عند سقراط هي نتاج الحاجة المتبادلة بين الناس في إطار تضامن وظيفي، حيث لا بد من وجود قواعد أساسية حتى تكون المدينة سليمة من الناحية الاقتصادية، باعتبار أن الاقتصاد هو الدافع الأساسي لنشوء الدولة، حيث أن الفرد كائن ناقص، والدولة هي نتيجة الحاجة المتبادلة بين الناس.
ومن أهم هذه العوامل هو تقسيم العمل، لذلك يقوم أفلاطون بتقسيم الناس إلى مراتب أربع متباينة بحسب تباين الاستعداد الفطري والتهيؤ الطبيعي، وهذه الطبقات هي: (طبقة الحكّام – طبقة المحاربين – طبقة التجار والحرفيين والمزارعين – طبقة العبيد). والعدالة الحقيقية هي أن يقوم كل فرد بأداء واجباته التي هو مؤهل طبيعياً للقيام بها.
رابعاً : نقد النظرية. (النقد يعبّر عن رأي كاتب المقال ولا يعبّر بالضرورة عن رأي الباحثون السوريون).
النقد الموجّه لغلوكون: ربما يكون الإنسان بطبيعته ميّالاً للظلم، وإلا لم يكن للفضيلة أن تكون مسعى، ولن يكون الفاضل ذا شأن إذا كانت الفضيلة فطرية وراسخة، وهذا الفرق هو الحد الفاصل بين العدالة بوصفها فضيلة مكتسبة وبين العدالة بوصفها وسيلة لنيل الغايات.
النقد الموجّه لأديمنتس: هل سيعيش الإنسان بائساً بعدالته في انتظار نعيم مأمول؟ وهل عليه أن يسكت عن الظالم رجاءَ أن يأتي يوم موعود ينال فيه جزاءه؟ إن موقف أديمنتس يذكرنا بفرقة في علم الكلام الإسلامي كانت تسمّى "المرجئة"، و جاءت تسميتهم تلك لأنهم كانوا ينادون بعدم الثورة في وجه الظلّام من بني أميّة بذريعة أن حساب هؤلاء على الله، مما حدا بالظلّام أن يستمرّوا بظلمهم وجورهم.
النقد الموجّه لأفلاطون: إن أهم ما يؤخذ على نظرية تقسيم العمل هي أن التخصص يكون من حيث الجهد أما المردود فليس به شيء من العدل، بل إن من يقومون بأقسى أنواع الأعمال هم من يحوزون أقل مردود.
ثم إن أفلاطون لم يبيّن الأسس التي يتم بموجبها تقسيم الناس، صحيح أنه ذكر التهيؤ الطبيعي لكل فرد، إلا أنه لم يبيّن الأسس التي يتم بموجبها تشكّل هذه الماهية المسبقة، هل هي نوع من الوراثة أم اصطفاء إلهي أم غير ذلك؟ و عليه، فأفلاطون لم يمتلك مقياساً حقيقياً يكون تقسيم المجتمع إلى طبقات مسوّغاً بالكامل، و هذا الأمر سيؤسس لأمر أخطر بكثير حين يرتبط بالملوك بادعائهم بأنهم من سلالات أرفع وأرقى من عامة الناس.
ولا نغترّ بالكلام اللاحق حول تربية الحكّام تربية تؤهلهم لاستلام مقاليد الحكم، لأن أفلاطون يصادر سلفاً على المطلوب، فهل يمكن لأي فرد أن يستلم زمام السلطة إذا تمّت تربيته تربية خاصّة؟ أم أن الأمر يستلزم أن يكون "ملكاً" بالفطرة.
ثم إن أفلاطون لم يقل بجمهوريته على أساس إنساني شامل، و الدليل أنه يعتبر الحرب والنزاع والسلب والنهب أمراً مشروعاً للدول، ودليل ذلك أن مهمة الطبقة المقاتلة عنده ليس فقط الدفاع عن الدولة بل أيضاً الإغارة والاغتنام من الدول الأخرى، فهل هذه هي العدالة التي ينادي بها أفلاطون؟
الطامّة الكبرى في نظرية أفلاطون نجدها عندما يتحدّث عن علاقة السماء بالأرض، يقول أفلاطون: "الأشرار تاعسون ولزم أن يتألموا والله أحسن اليهم بأن آلمهم لأجل خيرهم". ولكن من هم هؤلاء التعساء الذين حقّت عليهم كلمة السماء؟
يقول أفلاطون: "وإن أراد الله قلب أمّة أنبت شقاقاً وشرّاً بينها"، هكذا إذن، الأشرار هم أشرار لأن الآلهة أرادت لهم أن يكونوا أشراراً، ولكن الآلهة تآلمهم و تعذبهم لأنهم أشرار؟ هل هذا ما تسميه عدالة يا أفلاطون؟ هل هذه هي الديمقراطية اليونانية؟
خلاصة: يرى غلوكون أن العدالة ليست من طبيعة الإنسان بل الإنسان شرير بالأصل، بينما يرى أديمنتس أن الإنسان يجب أن يكون عادلاً بغض النظر عن ظروفه ولكن في ذات الوقت يجب أن ينتظر نتيجة عدله ومنفعتها وينتظر عقاب الظالم، أما أفلاطون فقد قدّم رؤية حول الظلم الاجتماعي بأبشع صوره على أنها العدالة.
راجع كتاب - أفلاطون: الجمهورية، ترجمة دار أسامة، دمشق، الطبعة الأولى، صفحة 42 حتى 72.
مصدر الصورة: هنا