هل يمكن لتعقُّب الـ (RNA) في سوائل الجسم الكشفَ عن الأمراض؟
البيولوجيا والتطوّر >>>> التقانات الحيوية
سعيًا وراء طرائقَ خاليةٍ من الألم للكشف عن السرطان وأمراض القلب وحالات أخرى، ولتشجيع المرضى على الفحص الدوري؛ اقترح العلماءُ البحثَ في سوائل الجسم المختلفة كالبول واللعاب عن أدلة تسهم في توقُّع الأمراض والكشف باكرًا ليكون ذلك بديلًا عن الخزعات الغازية، وكان الجواب في الحويصلات خارج الخلوية لما تحويه من جزيئات (RNA) تابعة لمختلف أنواع الخلايا بما فيها السرطانية. المصادر:
سنتطرق في المقال الآتي إلى آخر ما توصل إليه العلماء في هذا المجال والآفاق المستقبلية له.
تبقى أنسجة جسمنا على تواصل دائم بواسطة جزيئات الـ (RNA) خارج الخلوي (Extracellular RNA) أو اختصارًا (exRNA)، والتي تشكّل رسائلَ ترسلُها الخلايا ذهابًا وإيابًا فيما بينها. بدا واضحًا للعلماء إمكانيةَ استحصالِ كثيرٍ من المؤشرات التي تساهم في التنبؤ بالأمراض من خلال التنصت على هذه البيانات التي تسري في الدم واللعاب والبول وسوائل الجسم الأخرى.
كُثِّفَت الأبحاث عن استخدام الـ (exRNA) على مدى السنوات الخمس الماضية ليكون وسيلة للتشخيص، كذلك غاصت عدة جامعات وشركات في هذا المجال على أمل التوصل إلى تقنيات مفيدة طبيًّا.
واجهت هذه الفكرة عديدًا من التحديات، بدءًا من عدم التجانس والتنوع الطبيعي الذي تتصف به جزيئات الـ (exRNA) إلى الأغلفة التي تحيط بها وتؤمن نقلها وحمايتها في أثناء تجوالها في سوائل الجسم المتنوعة. تدعى هذه الأغلفة بالحويصلات خارج الخلوية، وهي حويصلات تنشأ من الغشاء الخلوي للخلايا وتحمل في داخلها جزيئات البروتين والـ (RNA). تحمي هذه الحويصلات حمولتها من الإنزيمات المحللة للـ (RNA) الموجودة في معظم السوائل البيولوجية، وتؤدي دورًا في عديدٍ من العمليات البيولوجية منها تكوين الأوعية وانتشار الخلايا السرطانية وغزوها، والاستجابة المناعية وعرض المستضد من خلال نقلها للبروتينات و الـ (RNA) بين الخلايا (1،2،3 ).
ما زال العلماء في خضمّ بحثٍ مستمر عن الطريقة المُثلى لعزل هذه الحويصلات؛ إذ يوجد أكثر من 1000 بروتوكول لاستخراجها من السوائل الحيوية، وذلك وفقًا لدراسة جمعت نحو 1700 طريقة تجريبية لعزلها (4).
ولكن؛ حتى مع إيجاد طريقة مُثلى وموحدّة لعزل الحويصلات خارج الخلوية، تظهر عدة تحديات تقنية في جمع الـ (exRNAs) من العينات البيولوجية ومعالجتها وتحليلها؛ وذلك بسبب التنوع الكبير في ذخيرة الـ (RNA)؛ من جزيئات الـ (RNA) المكروية (Micro RNA: miRNA) و(Small interfering RNA: siRNA) و(Long non-coding RNA: IncRNA)؛ ما يجعل تمييز المؤشرات الحيوية المفيدة سريريًّا من الصعوبة بمكان وسط الضوضاء الجزيئية في الخلفية.
الخزعة السائلة
إن عملية الكشف عن المؤشرات الحيوية الموجودة في السوائل الفيزيولوجية من لعاب وبول وغيرها تدعى الخزعة السائلة، تطبق هذه العملية حاليًّا على نطاق أوسع بهدف التشخيص المبكّر لكثير من الأمراض وأهمها السرطان. إذ يجري التحري عن المستويات المتغيرة لعديد من الجزيئات الحيوية والتي من المحتمل أن تكون مؤشرات مَرضيّة. تتيح الخزعة السائلة اكتشاف هذه المؤشرات المرضية في مراحل المرض المبكرة، التي تكون فيها أدوات التشخيص الأخرى - غالبًا ما تكون غازية - غير فعالة.
وعلى الرغم من العوائق القائمة والتي تحول دون التبنّي السريري واسع النطاق؛ فإن بعض اختبارات الخزعة السائلة التي تتحرى عن الـ (exRNAs) في السوائل الحيوية قد وصلت بالفعل إلى السوق؛ فقد بدأت هذه التقنية بإظهار نجاح في استبدال الخزعات الغازية المستخدمة للكشف عن العديد من أنواع السرطانات، كما أسهمت في توفير معلومات تأكيدية للمرضى الذين يواجهون تشخيصًا غير حاسم للسرطان.
ومثالًا عما سبق، يجري في مختبر (Waltham، Massachusetts) تحليل آلاف العينات البولية روتينيًّا كل شهر باستخدام الخزعة السائلة، إذ تُعزل كل الحويصلات خارج الخلوية من كل عينة، تليها خطوة عزل الـ (exRNAs) التي تحتويها. إن هذه الأبحاث تابعة لشركة (Exosome Diagnostics) التي تعد الشركة الأولى التي تقدم فحصًا تشخيصيًّا للاستخدام السريري قائمًا على الحويصلات خارج الخلوية المعزولة من الخزعات السائلة. وقد صُمم هذا الاختبار المعروف باسم (ExoDx)، للرجال الأكبر سنًا الذين ترتفع لديهم مستويات مستضد البروستات المحدد (Prostate-specific antigen: PSA) ارتفاعًا طفيفًا، للمساعدة في تحديد ما إذا كانت ستؤخذ خزعة غازية من البروستات أم لا (5).
يتضمن تشخيص سرطان البروستات -والذي يكون مؤلمًا عادةً – أخذ خزعة من البروستات من خلال إدخال إبرة بعرض رأس الدبوس تقريبًا عبر المستقيم واستخراج طرف صغير من الأنسجة، غالبًا ما يترك الإجراءُ الرجالَ في حالة ألم مع النزيف والالتهابات ومشكلات في المثانة.
يهدف (ExoDx) إلى تجنيب مزيدٍ من الرجال الخزعات الغازية لغير الضرورة، والمعالجة المفرطة التي غالبًا ما تتبعها، من خلال تحديد مستويات ثلاثة جزيئات (RNA) معينة موجودة في الحويصلات خارج الخلوية من عينات البول، تتبع هذه الجزيئات إلى جينات تساهم في تطور سرطان البروستات. من خلال تقييم النشاط النسبي لهذه الجينات، يعطي الاختبار تقديرًا لخطر إصابة الفرد بسرطان البروستات العدواني. وفي تجربتين سريريتين شملتا أكثر من 1000 رجل بمستويات (PSA) مرتفعة، أعطى الاختبار نتائج عالية الموثوقية للأشخاص المصابين بسرطان عالي الخطورة، والذين يجب أن يؤخذ في الاعتبار إخضاعهم لخزعة البروستات، كذلك للمرضى ذوي الحالات الحميدة من السرطان والذين لا حاجة لخضوعهم للخزعة (7،6).
اتُّبِع نهج مشابه للكشف عن أنواع أخرى من السرطانات باستخدام سوائل حيوية مختلفة مثل السائل الدماغي الشوكي الذي جرى البحث فيه عن جزيئات (RNA) المرتبطة بسرطان الدماغ (8)، كما دُرِسَت عينات اللعاب بحثًا عن دلائل لسرطان الفم والمعدة (9).
تسعى المخابر البحثية إلى توسيع نطاق تطبيق هذه التقنيات لتشمل تشخيص أمراض مختلفة وليس فقط السرطان؛ فعلى سبيل المثال: يسعى الباحثون إلى تطوير طرائق للكشف عن (exRNA) مُشخّصة لأمراض القلب والأوعية الدموية (10). كذلك يبحث العلماء عن حويصلات خارج خلوية مشتقة من الخلايا العصبية لفحص محتوياتها من (RNA) وبروتينات على أمل اكتشاف مؤشرات مبكرة لمرض ألزهايمر (11).
مع إحراز التقدم على كلٍّ من الجبهة البيولوجية والتقنية؛ اقترب العلماء من معرفة الدور الذي تؤديه رسائل الـ (RNA) الجزيئية في ظل الظروف الفيزيولوجية والمرضية المختلفة، وانتخاب السبيل الأفضل سعيًا لتطبيق اختبارات الخزعة السائلة على نطاق واسع وأملًا بتشخيصٍ مبكرٍ وأكثر دقة للأمراض مُنجيًا أرواح كثير من الناس.