مراجعة رواية نعاس
كتاب >>>> روايات ومقالات
فما يكاد القارئ يبدأ بإحدى رواياته وإذا به يخطو خطوةً داخل عالمٍ غريب عن الواقع علمًا أنَّ أدواته وشخصياته وأماكنه المُستخدَمة مُستمَدة من الحياة الواقعية وموغلة في تفاصيل ثقافية وأدبية وموسيقية وأخرى بسيطة يومية تمرُّ في حياتنا على الدوام. فروايات موراكامي تنتمي إلى الحد الفاصل بين ما هو واقعي وما هو فانتازي في قوالب خاصة به.
وفي روايته القصيرة (نعاس) -والتي لا تتجاوز صفحاتها الـ88 صفحة- يقدِّم موراكامي بطلةً لا اسم لها تُجري مونولجًا داخليًّا مع ذاتها مُشتبكًا مع القارئ أحيانًا، فقد وجدت نفسها تعاني حالةً غريبة تمامًا، ألا وهي عدم القدرة على النوم.
وتشرح لنا في البداية أنَّها تختلف عن الحالة التي أصابتها في الجامعة من أرقٍ جعلها تترنح بين اليقظة والنوم على امتداد شهر كامل دون وجود عامل مُسبِّب، وكانت نتيجته الوحيدة أنَّها نامت سبعًا وعشرين ساعة بعد هذا الشهر، ومن ثمَّ استعادت حياتها الطبيعية ودورة النوم واليقظة السابقة.
وعلى الرغم من اختلاف الحالتين اللتين أصابتا البطلة ولكنَّهما اشتركتا بشيء واحد، وهو أنَّ أحدًا من عائلتها وأصدقائها لم يلحظ ما تعانيه أبدًا، وفي المرتين لم تفكر إطلاقًا في الذهاب إلى المستشفى لمراجعة الأطباء ومعرفة ما الذي يحدث معها.
وإن كانت تعاني في الحالة الأولى من التعب في أثناء يومها، فقد ازدادت نشاطًا وقدرةً على إنجاز مسؤولياتها في الحالة الثانية.
وتصف البطلة عائلتها المؤلَّفة من زوجها طبيب الأسنان وابنها في مرحلته الابتدائية، وحياتها البسيطة بكل ما للكلمة من معنى؛ إذ يتألف روتين يومها من الاستيقاظ صباحًا، وإعداد وجبة الفطور، وتوديع زوجها وابنها، ثمَّ تذهب لشراء الحاجيات، وإعداد الغداء الذي تتناوله مع زوجها عندما يعود في فترة ما بين دوامه الصباحي والمسائي.
وبعدها تذهب إلى النادي لتسبح نصف ساعة، ومن ثمَّ تستقبل ابنها من المدرسة، وتُعِد العشاء الذي تجتمع عليه العائلة مُتبادلةً أحداث اليوم.
فهذه الحياة النمطية الرتيبة والتي لم يطرأ عليها أدنى تغيير كانت باختصار وبساطة حياةَ البطلة قبل أن يحدث وتحلم حلمًا مرعبًا في إحدى الليالي لتستفيق وتلحظ ظلَّ شيخ مُوشَّح بالسواد إلى جانب فراشها يسكب الماء على قدميها.
وظلُّ الشيخ هنا حقيقي وواقعي بقدر ما تصفه البطلة إضافةً إلى أنَّه يختلف عن دنيا الحلم الذي استيقظت منه منذ قليل.
ومع رعبها واستمرار محاولتها في الحركة والصراخ، ولكنَّها تبقى عاجزةً عن إبداء أي رد فعل. ومنذ تلك الليلة تفقد قدرتها على النوم، وتفقد رغبتها به أيضًا.
وبدل ساعات النوم الليلية تبدأ البطلة في القراءة، وفي الحقيقة تعود إلى شغف القراءة التي كانت تمارسه في الثانوية.
وتجد نفسها فجأةً تقرأ ساعات وساعات دون ملل، فتبدأ بقراءة رواية (آنا كارنينا) للكاتب الروسي ليو تولستوي Leo Tolstoy، وتعيدها ثلاث مرات في أول أسبوع مُكتشفةً مستويات مختلفة عند كل قراءة، ومن ثمَّ تنتقل إلى روايات فيودور ديستوفيسكي Fyodor Dostoevsky.
لا نستطيع -مع بساطة الحبكة والأحداث- إغفالَ قدرة موراكامي على وصف الأشياء العادية والمشاعر البسيطة والهواجس السخيفة بمنتهى الدقة والجمال عن طريق صوت البطلة؛ ففجأةً تبدو مشاهد وصف البطلة لتفاصيل وجه زوجها أو عمله والأحاديث المتبادلة بينهما وحتى مشاعرها لابنها واحتمال تبدُّلها عندما يكبر كلها تبدو موغلةً في العمق، ومع امتلاكها ساعات اليوم الأربع والعشرين كاملةً، فإنَّها تغوص في التفكير بها، وتصبح قادرةً على وصفها مباشرةً دون مواربة أو تجميل.
إضافةً إلى أنَّها تتطرق إلى الموت ورؤيتها له واختلاف معالمه وحدوده عمَّا تختبره في حالة عدم النوم.
وفي ثنائية النوم/اليقظة يفتح موراكامي الأفق الضيق الذي نعيش فيه؛ فنحن في أثناء يقظتنا نمارس نوازعنا المختلفة في العيش والأكل والدراسة وممارسة الحب، وعندما نلجأ إلى النوم فإنَّنا نحاول شحن طاقتنا وإراحة أجسادنا وأذهاننا لنستيقظ مجددًا لنجد نوازعنا تنتظرنا.
وبطلة (نعاس) تقتنص ساعات نومها لا في نوازع جديدة؛ وإنَّما في التعمق أو الخروج من محدودية هذه النوازع إلى مستوى آخر قد لا يستوعبه الشخص الذي ما زال بحاجة النوم كحاجته للأكل والعمل وما إلى ذلك.
إذًا، فحالة الصفاء والتركيز التي تعيشها البطلة ناتجةٌ عن تخلِّيها عن النوم وانفصالها -ولو ذهنيًّا- عمَّا تفعله في اليوم بكل آلية.
وتنتهي الرواية نهايةً مفتوحة فنتازية على تعقيد تفسيرها، ولكنَّها مناسبةٌ لأسلوب موراكامي الغريب، وقابلةٌ للتأويل في سياق الثنائيات التي طرحها الكاتب في الرواية؛ كالموت والحياة، واليقظة والنوم، والنعاس واللانعاس، والشعور وعدمه.
إنَّ رواية (نعاس) روايةٌ قصيرة قابلة للقراءة في جلسة واحدة، وإنَّما قد لا تقدِّم حبكةً وأحداثًا مُميَّزة، ولكنَّها ببساطتها السردية وطرحِها مفهوم النوم واليقظة بصورة مختلفة تجذب القارئ إلى عالم موراكامي الساحر.
معلومات الكتاب: