الهرمينوطيقا (علم التأويل) وما وراء النص
الفلسفة وعلم الاجتماع >>>> الفلسفة
ظهر مصطلح «الهرمينوطيقا - Hermeneutica» اللاتيني من خلال اللاهوتي "يوهان كونراد دانهاور Johann Conrad Dannhauer 1603-1666" الذي كان أول من قدَّم كتابًا منهجيًّا عن التأويل، ويعبِّر المصطلح تحديدًا عن الطريقة العلمية للتأويل، ويوفِّر علم التأويل مجموعة أدواتٍ لمعالجة مشكلات تفسير الأفعال البشرية والنصوص والخطابات الشفوية والمواد الأخرى بكفاءة. أما عمليًّا؛ فهي أقدم من ذلك؛ إذ تعود بداية «الهرمينوطيقا» بوصفها نشاطًا أكثر منهجيةً في التأويل إلى تفسير ملاحم الشاعر الملحمي الإغريقي "هوميروس - Homer". والجدير بالذكر أنه في العصور اليونانية القديمة كانت ممارسات التأويل متطورةً للغاية، إذ كانت الحكايا الرمزية الأسلوبَ الأكثر انتشارًا في تلك الفترة (1). 1. Mantzavinos C. Hermeneutics [Internet]. Stanford.library.sydney.edu.au. 2016 [cited 30 January 2021]. Available from: هنا
وبصورةٍ عامة؛ تتعدد المجالات التي تخضع مواضيعها للتأويل وأهمها: النص الديني الذي لا يخلو في كثيرٍ من الأحيان من الغموض الذي جعل من مهمة التأويل تكييفَ معنى النص للحالة العينية التي يتحدث عنها النص، لكنَّ منهج التأويل ينصبُّ أيضًا على نصوصٍ أخرى غير النص الديني؛ فنجده في الفلسفة والشعر والأدب والفن والقانون، فالنص في القانون مثلًا، لا يوجد من أجل أن يُفهَم فقط بمعنى كلماته الحرفي، بل أن يُترجَم لينزل بشرعيته القانونية إلى الواقع العيني وذلك يحدث من خلال تأويله. وعلى صعيد التحليل النفسي أصبح التأويل الطريقةَ المُثلَى لفهم الحالة من خلال متابعة التصرفات اليومية العادية وعدم التعاطي مع تعبيرات الفرد في معناها المقصود، وإنما الحفر فيما يحدث في الطبقات العميقة داخله. ويؤوِّل المؤرخ بالطريقة نفسها معطيات التراث ويكتشف المعنى الحقيقي الذي تعبِّر عنه، ويكتشف في الوقت نفسه ما تخفيه هذه المعطيات (2).
وعند البحث وراء معنى التأويل؛ نجده يتمحور حول استخلاص المعنى الكامن في النص أو الموضوع انطلاقًا من معناه الظاهر، أي بعبارةٍ أخرى الانطلاق من المعاني المجازيَّة بحثًا عن المعاني الحقيقية، والجدير بالإيضاح أن التأويل ليس مرحلةً ثانويةً لاحقةً تكمِّل الفهم، إنما الفهم نفسه يعني إخضاع النص إلى محاكمةٍ وتفسير، ومن هنا فإن التأويل هو الفهم بشكله الصريح. وهو ضروريٌّ حين لا يجد المرء نفسه واثقًا بما تعرضه عليه ظاهرةٌ ما (2).
ويُقسَّم التأويل على الصورة الآتية: القدرة على الفهم، ثم القدرة على التفسير، وأخيرًا القدرة على التطبيق. واللافت للنظر أن جميع هذه العناصر تُسمَّى (قدرات)، فقد عُدَّت سابقًا في التراث التأويلي بمنزلة مواهبَ تحتاج إلى عقلٍ بميزاتٍ خاصةٍ قادرٍ على تجريد الأمور وتفصيلها. ومصطلح «الهرمينوطيقا» أكثر شموليةً وتكاملًا في تعبيره من عملية تحليل النص، فهو بمنزلة نشاطٍ عمليٍّ وفكريٍّ يأخذ طابع التفسير، ويُسقَط على النص ليكشف عن العمق الكامن فيه، لنصبح أمام حالةٍ فنيةٍ في التعاطي مع النص (2).
وفي الفلسفة؛ تتمثَّل مهمة «الهرمينوطيقا» في التساؤل عن نوع الفهم والعلم الذي هو نفسه يتقدم ويتغير من خلال التغير التاريخي، وقد ألقى اللاهوتي والفيلسوف "فريدريك شلايرماخر - Friedrich Schleiermacher, 1768-1834" محاضراتٍ في هذا السياق عن التأويل، ومن بين العديد من الموضوعات التأويلية التي أكد عليها؛ ذكر نقاطًا عدةً عن «الهرمينوطيقا»:
أولًا: تفسير كلمات المؤلف أمرٌ متعلقٌ باستخدام اللغة وبالمعنى الفردي أو الشخصي، أي ما يقصده المؤلف بالكلمات. ذلك أنه لا يمكن للمرء أن يفسِّر العمل بدقةٍ بمجرد معرفة ما تعنيه الكلمات التي استخدمها المؤلف في وقت كتابتها، بل إن المعنى الكامن في نَفْسِ المؤلف الذي ينوي أن تعبِّر عنه كلماتٌ محددةٌ يوازي أهمية ما تعنيه الكلمات ذاتها بحرْفيتها.
ثانيًا: بسبب الاختلافات التاريخية والثقافية والنفسية بين المؤلف والقارئ (المؤوِّل) من المحتمل أن يكون هناك سوء فهمٍ للنص.
ثالثًا: يمكن تطبيق التأويل على كافة النصوص باختلاف أنواعها: العلمانية وكذلك الدينية، الشعرية وكذلك غير الشعرية، المكتوبة بلغةٍ أجنبيةٍ وتلك التي باللغة الأولى.
رابعًا: لا يجوز للمترجم أن يعتمد على مبادئَ مثل الإلهام الإلهي لتوجيه تفسيره، حتى عندما يتعلق الأمر بالنصوص الدينية (3).
توضح هذه الموضوعات وغيرها كيف أن علم التأويل هو بمنزلة الفن؛ نجده يأخذ مجدَه ويسعى بمتعةٍ إلى مبتغاه وأنه أكثر شموليةً وعموميةً في التعامل مع النص أيًّا كان نوعه.
المصادر:
2. غادامير، هانز جورج. (2007). الحقيقة والمنهج، الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفية. ترجمة: ناظم، حسن و صالح، علي. (ط1). طرابلس: دار أويا للطباعة والنشر والتوزيع والتنمية الثقافية. ص418, 419, 453
3. Charles W. B. Hermeneutics. In: Peterson P, Baker E, McGaw B, ed. by. International Encyclopedia of Education [Internet]. 3rd ed. Burnaby: Elsevier; 2010 [cited 2 February 2021]. p. 63-68. Available from: هنا