"ابن رشد"؛ الفيلسوف الذي نُفِيَ من وطنه؛ كيف أثَّر في الفلسفة الغربية؟!
الفلسفة وعلم الاجتماع >>>> الفلسفة العربية والإسلامية
ازدهرت الفلسفة الإسلامية في العصور الوسطى، ولكن تلاشت لاحقًا دراسة الفلسفة والعلوم في البلدان الإسلامية بوجود العديد من المعوقات، وبدأت أوروبا الغربية في النهوض بفلسفتها اعتمادًا على الكتابات اليونانية المُترجَمة إلى العربية والمشروحة من قِبَلِ الفلاسفة المسلمين.
كيف أصبحت أوروبا الغربية بحلول أواخر العصور الوسطى المكان الرئيس للبحث الفلسفي والعلمي؟ العوامل كثيرةٌ ومُعقَّدة، ولكن تُعدُّ حياة فيلسوف قرطبة "ابن رشد" وأعماله عاملًا مهمًّا في هذا الانتقال (1).
عاش "أبو الوليد محمدٌ بن أحمدَ بنِ رشْدٍ (1126-1198)" -المعروف في الغرب اللاتيني باسم "Averroes"- في خلال فترةٍ فريدةٍ من نوعها في التاريخ الفكري الغربي حين تضاءل الاهتمام بالفلسفة واللاهوت في العالم الإسلامي وبدأ للتو في الازدهار في المسيحية اللاتينية (2).
وقبل خمسةَ عشرَ عامًا فقط من ولادة "ابن رشد"، تُوفِيَ الناقد الكبير للفلسفة الإسلامية "الإمام الغزالي (1058-1111)" بعد أن وجَّه ضربةً ضد الفلسفة الإسلامية المُتَّبِعةِ للأفلاطونية الجديدة، وتحديدًا ضد أعمال الفيلسوف "ابن سينا"، وانبثق في هذه الظروف القاتمة الفلاسفة المسلمون، وكان آخرهم وأكثرهم تأثيرًا وإثارةً للجدل "ابن رشد" (2).
لماذا تُعدُّ فلسفة "ابن رشد" مثيرةً للجدل؟
أكد "ابن رشد" أن أعمق الحقائق يجب أن تُتناوَل عن طريق المنطق والتحليل العقلاني، وأن الفلسفة يمكن أن تؤدي إلى الحقيقة النهائية. وأراد بطريقته الخاصة التوفيق بين الفلسفة والإيمان، وروَّج للمنطق بوصفه مفتاحًا للفهم الحقيقي للدين، ورأى أنهما لا يتعارضان فيما بينهما وإنما يتوافقان (3,4)، وقد جاء في كتابه (فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال) الذي استهل فيه بسؤال: "هل أوجب الشرعُ الفلسفة؟" فيقول: "وإذا كانت هذه الشريعة حقًّا وداعيةً إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق، فإنا معشر المسلمين، نعلم على القطع أنه لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع. فإن الحق لا يُضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له." (5)، وبذلك كان كتابه هذا ردًّا على الفقهاء الذين اتهموا الفلاسفة بالهرطقة (2).
وكان ابن رشد مُعجَبًا جدًّا بـ"أرسطو"، وعدَّه تجسيدًا لأعلى تطورٍ للعقل البشري. يُقال إن "ابن رشد" فهم فلسفة "أرسطو" وشرحها وناقشها تحليليًّا أكثر من أيٍّ من أسلافه ومعاصريه حتى لُقِّبَ بـ«الشارح» (4).
واشتُهِرَ "ابن رشد" قبل كل شيءٍ بكتابه الأشهر (تهافُتُ التهافُت) -ويعني تناقض التناقض- الذي هاجم فيه "الإمام الغزالي" صاحب كتاب (تهافُت الفلاسفة) -تناقض الفلاسفة- وهو العمل الذي سعى فيه "الغزالي" إلى تقوية العقيدة والإيمان التسليمي (التقوى) من خلال مهاجمته الفلاسفةَ وتحديدًا الفيلسوف "ابن سينا". ناقش "ابن رشد" في كتابه نقطةً بنقطةٍ الأخطاءَ التي رآها في آراء "الغزالي" ومنهجيته. وأكَّد أن المنهجية التي اتبعها "الغزالي" في هجومه على الفلاسفة تعتمد على إخراج الحجج الفلسفية من سياقها بصورةٍ معزولةٍ عن سياقها العام (1,4).
لكنه وُصِمَ وأعمالُه بالهرطقة، فهو مثل غيره من الفلاسفة المسلمين؛ نال "ابن رشد" حصته من اتهامات التكفير ونشْر البدع (1).
ما يميز "ابن رشد" عن معاصريه ومن سبقوه
يجب أن نأخذ بالحسبان أربع وجهات نظرٍ تضع "ابن رشد" خارج السرب عند مُقارنته بفلاسفة عصره دون حصر فلسفته بها:
كيف أحدثت كتاباته هذه الثورة في الفكر والفلسفة الأوروبيَّين
شرح الكاتب "فرح أنطون" في كتابه (فلسفة ابن رشد) مراحلَ تطور الفلسفة الوسيطة في أوروبا وتأثير ترجمات "ابن رشد" عليها، فيبدأ شرحه عندما كانت الفلسفة في أوروبا في القرن الثاني عشر لا تتعدى كونها مجموعةً من التعاليم اللاهوتية مما كتبه أصحاب المذاهب اللاتينية المختلفة، وتَدين أوروبا لأسقف مدينة طليطة "Toledo" في نقل فلسفة العرب إلى أوروبا بعد إنشاء دائرةٍ لترجمة أعمال العرب الفلسفية إلى اللاتينية، وكان اهتمام الإمبراطور الألماني "فريدريك الثاني" عاملًا مهمًّا في تشجيع المفكرين في أوروبا على ترجمة الفلسفة العربية والرشدية دون خوفٍ تحت حمايته، وقاوَمَ النظامُ الكهنوتيُّ في أوروبا هذه الأعمال العربية لأن أصولها اليونانية مخالفةٌ لأصول الأديان، وحُرِّمَت تعاليم "أرسطو" وما يتعلق بها من شروحٍ عربيةٍ وخصوصًا تلاخيص "ابن سينا"، وخصَّصَ القديس "توما الأكويني" كثيرًا من أعماله لنقد أعمال "ابن رشد". كانت الأسباب التي ارتكز عليها التيار المحارِب للفلسفة العربية في أوروبا نفسها الأسباب التي دفعت المسلمين لمحاربة الفلاسفة وأبرزها مسألة قِدَمِ العالم (أي أنه ليس مُحدَثًا أي ليس مخلوقًا من بضع آلافٍ من السنين فقط) وإن الخالق لا يصنع شيئًا في الكون إلا بسببٍ (لازم) (6).
ويسرد "فرح أنطون" أوائل ظواهر التغيير في الفلسفة الأوروبية حين ظهر في نفس الفترة المذكورة أنصارٌ للفلسفة العربية وخاصةً الفلسفة الرشدية، وأضحى "ابن رشد" مشهورًا في الوسط الثقافي الأوروبي ما بين مبجِّلٍ له ومُبغِضٍ لأعماله، وبدأت فلسفة "ابن رشد" في الانتصار في إيطاليا بدءًا من (كلية بادو) المشهورة، وبدأت الكنيسة قبولَ فلسفة "أرسطو" وعَدَّ "ابن رشد" أفضل شُرَّاح "أرسطو"، ومع الوقت بدأ بعض الأوروبيين بالعودة مباشرةً إلى النصوص اليونانية وانقسموا ما بين «رشديين» و«يونانيين»، ودامت هذا الحال حتى بزوغ الفلسفة الحديثة (6).
ولكن فيما بعد -وبحسب الكاتب- دخلت الفلسفة الحديثة في طريقٍ جديدة؛ ومع أنَّ فلسفة "ابن رشد" تحمَّلت انتقادات «الأفلاطونيين» و«اللاهوتيين» واضطهاد دواوين التفتيش، إلا أنها لم تستطع التغلب على الفلسفة الحديثة الجديدة، وهنا كانت نهاية الفلسفة القديمة بشقيها العربي واليوناني وبداية عصر الفلسفة الحديثة المبنيَّة على التجربة والمشاهدة (6).
استحقاق "ابن رشد" لهذه المكانة التاريخية في أوروبا
أدَّت محاولات "ابن رشد" في التوفيق بين الفلسفة والدين إلى إعادة التفكير في مبادئ المسيحية في أوروبا، وقد حفَّزت أعماله على بعض التأويلات العقلانية العظيمة للفكر الديني. ومن المقبول بصورةٍ عامةٍ أنَّ العلاقة بين العقل والإيمان كانت إحدى القضايا المتكررة في الفلسفة الدينية في العصور الوسطى ومحلَّ نقاشٍ طويلٍ ومهمٍّ بين المفكرين، ويتفق الجميع تقريبًا على أنَّ "ابن رشد" يستحق مكانًا كبيرًا في تاريخ هذا النقاش (3).
وجد "ابن رشد" هذا النوع من الشهرة بعد وفاته في أوروبا المسيحية في الوقت الذي استعصت عليه هذه المكانةُ في العالم الإسلامي. دفاعه الشغوف عن الفلسفة وجهوده طوال حياته المهنية لجعل فلسفة "أرسطو" مفهومةً لم تجد كثيرًا من القرَّاء بين المسلمين، فبالنسبة للفيلسوف "موسى بن ميمون" الذي وُلِدَ أيضًا في قرطبة في نفس الفترة الزمنية، كان من المستحيل فهم "أرسطو" دون الشروحات التي كتبها "ابن رشد" (1). لكنه لاقى رفضًا واسعًا عند المسلمين الذين أصبحوا إلى حدٍّ كبيرٍ ضد الفلسفة بعد انتصار التيار المناهض للفلسفة وعدِّ الفلسفة ضربًا من ضروب الهرطقة، إذ لم يحظَ "ابن رشد" بقبول الخليفة المنصور بسبب المعارضة التي أثارها الفقهاء ضد كتاباته وخصوصًا بعد اتهامه بالهرطقة، وسُجِنَ ونُفِيَ إلى مدينة اليسانة بالقرب من قرطبة. وأمر الخليفة بحرق كتب "ابن رشد"، باستثناء مؤلفاته في الطب والحساب وعلم الفلك (4). في الوقت نفسه؛ ترسَّخت أفكار "ابن رشد" في جوٍّ ثقافيٍٍّ مختلفٍ تمامًا في شمال إسبانيا وبين القرَّاء المسيحيين اللاتينيين الذين شاركوه رؤيته لدينٍ قائمٍ على تفكيرٍ فلسفيٍّ صارمٍ مستوحًى من "أرسطو"، وهكذا احتلت الفلسفة مكانها في صميم المناهج الأكاديمية الأوروبية.
المصادر:
6. أنطون، فرح. (2010). فلسفة ابن رشد. (ط.1). القاهرة: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة. ص 45-46، 62-64، 67.